المطلوب فلسطينيا في مناخ حركات التغيير

TT

أين مكان القضية الفلسطينية في تحركات التغيير العربية؟

ما التحرك الفلسطيني المطلوب من أجل التغيير؟

لم يبرز شعار فلسطين كشعار متميز في حدث التغيير التونسي الذي لفت أنظار العرب جميعا، لكن الكثيرين رأوا أن هذا التغيير يصب بشكل مباشر في مصلحة القضية الفلسطينية. وكذلك الأمر في حدث التغيير المصري، الذي يختلف نوعيا عن التغيير التونسي، بحكم تأثير مصر الأكبر والأوسع على المحيط العربي، بل وعلى المحيط الإقليمي أيضا، فمع أن الشعار الفلسطيني لم يبرز أيضا كشعار متميز في حدث التغيير المصري، إلا أن علامات تأثيره على الوضع الفلسطيني كانت أشد وضوحا، بسبب عوامل موضوعية مهمة، لعل أبرزها هو اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، وتطورها المستقبلي. وهو ما لفت النظر إليه بشدة الموقف الأميركي الذي تعامل مع الحدث المصري من خلال تركيز شديد ومتواصل، على ضرورة الحفاظ على هذه الاتفاقية. كذلك فإن الموقف الإسرائيلي، الذي عبر عن نوع من الرعب من احتمال المساس بهذه الاتفاقية، لفت الأنظار إلى أهمية الحدث المصري فلسطينيا، خاصة حين بدأ قادة إسرائيل يتحدثون عن ضرورة بناء جيش إسرائيلي جديد، يتفرغ لحرب في الجبهة المصرية في المستقبل.

لقد كانت هذه علامات أولى، وهي علامات تنطوي على أمر يتعلق بالنفوذ الأميركي الاستراتيجي في هذين البلدين، فإذا كان نظام تونس السابق، وهي الدولة الصغيرة، والأقل تداخلا مع القضايا الاستراتيجية العربية، يشكل جزءا أساسيا من منظومة النفوذ الغربي - الأميركي في منطقة الشمال الأفريقي، فإن بروز تيار شعبي - سياسي ضد ذلك النظام يؤشر إلى نوع من الانحسار لهذا النفوذ الغربي - الأميركي. وأي انحسار لهذا النوع من النفوذ يعني في النهاية إضعافا لمكانة السياسة الإسرائيلية في المنطقة، المحمية من الغرب وأميركا. ومن خلال هذا المعنى الاستراتيجي تبرز الأهمية الفلسطينية للحدث التونسي. أما في الحدث المصري فإن انحسار النفوذ الأميركي فيها، بشكل خاص، يؤثر، كما قلنا، على المنطقة بأكملها، حتى لو لم يكن هناك أي حديث عن فلسطين أو عن إسرائيل، إضافة إلى أن الحكم المصري تميز في عهد الرئيس حسني مبارك بأمرين:

الأمر الأول: علاقة وثيقة مع أميركا تصل إلى حد التماهي فيما يخص قضايا المنطقة العربية.

والأمر الثاني: علاقة وثيقة مع إسرائيل، ترى في بعض من هو عدو لإسرائيل عدوا لمصر، ومن هنا كان الإسهام المصري في الحصار على غزة، والاهتمام بمصير الأسير الإسرائيلي (شاليط) وكأنه أسير مصري.

ولهذا، فإن مجرد الإعلان عن خطوة التغيير الأولى، في مصر، كان يعني خطوة تغيير أولى في طبيعة العلاقة مع كل من أميركا وإسرائيل، ومن دون أن يعني ذلك بروز سياسة مصرية تعلن العداء لأميركا أو لإسرائيل.

ضمن هذا الإطار ومعانيه الاستراتيجية، برز السؤال عن الدور الفلسطيني المطلوب: ماذا على الفلسطينيين أن يفعلوا كي يلتحقوا بحركة التغيير العربية، وكي يحافظوا على قضيتهم كقضية ملهمة للنضال الوطني العربي؟

في البدايات، وفي أوساط الشباب الفلسطيني بشكل خاص، برز التيار «الشكلي»، إن جاز التعبير، وهو التيار القائل بضرورة قيام فعل شعبي فلسطيني يتماهى مع التحرك التونسي أو مع التحرك المصري، وهو ما يعني أن يخرج الشباب إلى الشارع للمطالبة بالتغيير وبرحيل الحاكم، لكن النقاش الداخلي الذي ساد فلسطينيا ركز على أن الأمر لا يجوز أن يكون مجرد «تقليد شكلي» لأحداث نضالية عربية مهمة، ولا بد هنا من تغيير فلسطيني يحمل عنوانا فلسطينيا، ويحمل مضمونا فلسطينيا أيضا، وذلك بسبب الاختلاف النوعي بين الوضع الفلسطيني وأي وضع عربي آخر. ويمكن إيجاز هذا الاختلاف النوعي بأمرين:

الأمر الأول: أن الشعب الفلسطيني شعب محتل، وإذا حدث شيء ما في رام الله مثلا ضد الحاكم أو ضد السلطة، فإن الاحتلال المباشر ما يلبث أن يطل برأسه، ويفرض نفسه، وهو مآل غير سار وغير مقبول.

الأمر الثاني: أن الشعب الفلسطيني شعب مشرد، ويعيش في أقطار عدة عربية وغير عربية. والتغيير المجزوء في مكان ما لا يستطيع أن يعبر عن تغيير تريده الجماهير في أصقاعها المتفرقة، ولا بد للتغيير الفلسطيني أن يخاطب هؤلاء جميعا، وأن يعبر عن مطالبهم ومصالحهم.

ما هذا التغيير الذي يعبر عن مصالح الجميع؟ لقد رفع الشباب بشكل عفوي، في كل من رام الله وغزة، شعار المصالحة، وهو شعار إيجابي ومرغوب، لكنه لا يستطيع أن يجيب عن جوهر المشكلة؛ فالمصالحة المقصودة هنا هي مصالحة بين حركتي فتح وحماس، أو بين سلطتي رام الله وغزة، ومع أهمية قيام المصالحة في هذا الإطار، فإنها لا تحقق المرجو منها على صعيد الشعب الفلسطيني كله.

في ظل هذا الحوار الداخلي، الذي دار في أكثر من بلد وفي أكثر من مكان، وُلدت الفكرة الجوهرية الرئيسية القائلة بضرورة «إعادة بناء القيادة السياسية الفلسطينية» في إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي لعبت لسنوات طويلة دور القائد السياسي الموحد للشعب الفلسطيني. وقد بادرت 4 جهات فلسطينية، على الأقل، لطرح هذا الموضوع والإسهام فيه.

الجهة الأولى: بعض فصائل المقاومة الفاعلة، التي التقت وناقشت الوضع وقالت إن الأمر لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه، ولا بد من نشاط باتجاه بلورة قيادة وطنية فلسطينية تأخذ على عاتقها البدء بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، على صعيد الهياكل والمؤسسات (المجلس الوطني)، وعلى صعيد البرنامج الوطني الجامع (الميثاق الوطني) الذي تم إلغاؤه عام 1998.

الجهة الثانية: هي «الهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني»، التي بادرت إلى إصدار وثيقة فلسطينية تشرح واقع منظمة التحرير المفتت من جهة، وخطة إعادة البناء من جهة ثانية، مع تأكيد ضرورة مشاركة القوى الاجتماعية الفلسطينية في إعادة البناء، حتى لا يكون الأمر حكرا على الفصائل فقط.

الجهة الثالثة: هي مجموعة من الشباب، من الضفة الغربية ومن الأردن، بادرت إلى إطلاق ما سمته «مبادرة الشباب» من أجل الهدف نفسه، وأضافت إليه مناقشة لمستقبل السلطة الفلسطينية؛ حيث تتحول عند التغيير إلى سلطة إدارية، تدير شؤون الحياة اليومية، ولا تتعاطى مع الاحتلال سياسيا أو تفاوضيا.

الجهة الرابعة: هي مجموعة من الفلسطينيين في دولة الإمارات العربية المتحدة، تميزت بأنها قريبة من سلطة رام الله وغير معادية لها، لكنها تطالب هي أيضا بالتغيير وبإعادة البناء.

وقيام هذه الجهات كلها، انطلاقا من أماكن متباعدة، يبرز أن الحاجة للتغيير أصبحت حاجة شعبية فلسطينية، وأن مناخ إعادة بناء قيادة سياسية للشعب الفلسطيني، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، أصبح مناخا سائدا.