حتى لا نظلم شيعة الخليج

TT

تتجه الأمور بين دول الخليج العربية من طرف، وإيران الخمينية من طرف آخر، إلى المزيد من التوتر.

آخر فصول هذا التوتر الإيراني الخليجي هو مؤتمر رئيس الجمهورية الإيرانية أحمدي نجاد بالأمس الذي هدد فيه دول الخليج ووصف موقفهم من شقيقتهم دولة البحرين بأنه غير قانوني وبأنه مجرد تلبية لطلب أميركي، وبأن عليهم أن يعتبروا من مصير صدام حسين الذي غزا دولة الكويت سابقا وكان عميلا للأميركيين ثم لفظه الأميركيون، وبأن على أنظمة دولة الخليج أن تكون صديقة لشعوبها وتسمع مطالبها، وبأنه لا قيمة لبيان المجلس الوزاري الخليجي في إدانة التحريض الإيراني ضد دول الخليج. ثم تحدث عن قضية فلسطين وإسرائيل بشكل مقحم.

باختصار أحمدي نجاد كالعادة، يكرر كلامه عن إسرائيل وفلسطين والشرف والممانعة...الخ ليبرر بهذه المكررات من الكلمات سلوك إيران المقلق تجاه البحرين والخليج كله.

في البحرين القصة واضحة، هناك «بعض» القوى السياسية المعارضة مرتبطة عقائديا وسياسيا بإيران، وكلنا يعرف الموقف الإيراني الحقيقي من البحرين وآخرها قبيل سنوات قريبة حينما صرح حسين شريعتمداري، مستشار المرشد الإعلامي، بتبعية البحرين لإيران، والحق التاريخي لإيران فيها. البيان الخليجي في الرياض أول من أمس كان حاسما وواضحا في اتخاذ موقف جماعي تجاه سياسة إيران ضد دول الخليج، خصوصا بعدما كشفت الكويت عن التوصل لشبكة تجسس إيرانية خطيرة على أراضيها، ومسارعة إيران إلى السخرية، كالعادة، من هذا الأمر، واتهام قوى الشر العالمية بتدبير ذلك. نحن في حالة تصعيد مستمر ولغة شبه حربية بين المجموعة الخليجية وإيران على خلفية السياسة الإيرانية تجاه البحرين. نحن في عين العاصفة منذ أن أخذت المظاهرات والاعتصامات في البحرين ضد السلطة منحى خطيرا باتجاه الثورة على الدولة؛ طبيعة الدولة نفسها، وإعلان حسن مشيمع، أحد رموز هذه المعارضة «الشيعية»، عن إعلان «الجمهورية» وإلغاء الدولة القائمة.

دول الخليج بقيادة السعودية أرسلت قوة درع الجزيرة إلى البحرين، بناء على طلب دولة البحرين وبناء على الاتفاقيات المشتركة في حماية أي دولة من دول الخليج من أخطار الانهيار والسقوط.

إيران جن جنونها، من المرشد إلى رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان.

ما حصل هو استنفار خليجي كامل ضد إيران، وإيران من طرفها لم تحاول تهدئة المشاعر الخليجية بل زادت النار حطبا، وكرست حقيقة الشكوك تجاه نواياها، وهددت دول الخليج، على لسان أحمدي نجاد، بأن أميركا لن تنفع دول الخليج!

لا فائدة من الكلام الكثير عن مطامح إيران في المنطقة العربية خصوصا الشريط الساحلي الخليجي، فهي معروفة قديما. أما وجود جماعات شيعية أصولية مرتبطة بإيران فهذا أيضا أمر معروف ومثبت، يكفي قراءة ما كتبه أمثال الباحث فلاح المديرس عن الجماعات الشيعية في البحرين والكويت، ويكفي القراءة عن جبهة تحرير البحرين ورجل الدين الإيراني «المدرسي» ويكفي القراءة في تاريخ حزب الله الفرع السعودي، المسمى بحزب الله الحجاز.

ويكفي من هذا كله قراءة الواقع الحالي وموقف إيران التي تقدم نفسها راعية الحقوق المتطرفة المطالبة بإلغاء الدولة في البحرين وإقامة الجمهورية «التابعة طبعا لإيران»، حسبما يريد منا أحمدي نجاد وعلاء الدين بروجردي.

لا ندري إلى أين تتجه الأزمة بين دول الخليج وبين إيران، وهي بالأساس أزمة قديمة، إن لم تكن هي من أكبر أسباب إنشاء وبقاء مجلس التعاون الخليجي نفسه، ومن يطالع الكتاب الخطير الجديد الذي أصدره نائب الرئيس السوري المنشق، عبد الحليم خدام، قبل أشهر، بعنوان: «التحالف السوري الإيراني والمنطقة»، سيقرأ محادثات ونصوصا خطيرة، شهدها ودوّنها وشارك فيها خدام نفسه، وهي كلها عن الصداع الذي تسببت فيه إيران الخمينية لدول الخليج وكيف أنه كادت تنشب الحرب بين السعودية وإيران أكثر من مرة، خصوصا في 1985، أثناء ما عرف بحرب الناقلات وضرب إيران للبواخر السعودية في عرض البحر، ودخول طائرات إيرانية إلى الأجواء السعودية، وكان الملك فهد دوما يضبط الأمور عند آخر لحظة وكيف أنه أبلغ الوسيط السوري الرئيس حافظ الأسد عن أنه لا يريد إحداث حرب في المنطقة، رغم أن السعودية قادرة تماما على ضرب الطائرات الإيرانية، ولكنها تريد خليجا هادئا لا مشتعلا، وكيف أن ملف البحرين كان حاضرا منذ البداية في قصة العلاقات السعودية الإيرانية، بعد ثورة الخميني، منذ نشوب أزمة بين إيران والبحرين 1980، ثم ازدياد القلق الخليجي من هذه المطامح الإيرانية، حتى إن نائب رئيس وزراء إيران حينها صادق طباطبائي أكد في زيارة لدمشق في يناير (كانون الثاني) 1982 أن إيران ترغب في إقامة علاقات أفضل مع دول الخليج، وأكد أن إيران لا تتدخل في البحرين البتة، ونقل المسؤول السوري السابق عبد الحليم خدام بتكليف من الرئيس الراحل حافظ الأسد هذه المواقف إلى الرياض، وسمعها الملك فهد لكن لم يظهر أن سياسات إيران على الأرض كانت تتوافق مع هذا الكلام التطميني. الآن، لن تنتهي المشكلة بين إيران ودول الخليج إلا إذا تخلت إيران عن تدخلاتها في المجتمعات الخليجية، أو تثوير الشيعة سياسيا، أو حتى زرع جواسيس داخل هذه الدول، ناهيك عن إشعال إقليم الشرق الأوسط حول دول الخليج، ناهيك طبعا عن خطر الدور الإيراني في العراق أو الدور المحتمل لهم في اليمن. إيران، من طرفها، لن تتخلى عن هذه السياسات المثيرة والمزعجة إلا إذا حصلت على ما تريد، وهو بالمناسبة ليس السلاح النووي فقط، بل الهيمنة والنفوذ في المنطقة، السلاح النووي ليس إلا وسيلة لذلك، وهو حلم قديم، تحدث عنه خدام في كتابه، لخلق محور إيراني تركي سوري.

لا خلاص إذن، إلا بمعجزة، من هذا الصراع.

السؤال المهم، وقد سمعته من مثقفين خليجين ليبراليين، هو: كيف نشخص هذه المعضلة الإيرانية الكبرى و«الحقيقية» على دول الخليج وحقيقة أن لإيران بالفعل أصابع تحركها في هذه الدول، وأن لا نكون طائفيين نتحدث بلغة «أذناب المجوس والصفويين» وهذه اللغة الإقصائية اللاوطنية؟!

هذه معضلة أخلاقية، ومشكلة عملية أيضا. معضلة أخلاقية لأن الوقوع في فخ الطائفية يضعك في خانة كريهة تحاسب الناس على محددات غير وطنية وغير إنسانية (الطائفة، اللون، اللغة، العرق، الجهة...)، وغير عقلانية أيضا لأن الإنسان لا مزية له في هذه المحددات الجبرية، بل فيما يفعله هو في حياته وما يختار. ثم إنها مشكلة عملية لأن الانجرار في اللغة الطائفية يضع كل مواطني الخليج في سلة واحدة ويهديهم بشكل غبي إلى إيران، ويدفعهم دفعا إلى الحضن الإيراني، الذي هو بكل حال حضن غير مريح للشيعة «العرب».

دول الخليج أولى بمواطنيها الشيعة، من إيران، ولا يجوز بضغط المواجهة مع إيران وحيلها في المنطقة أن نروج خطابا طائفيا مقيتا ضد المواطنين الشيعة، خصوصا أن اللغة الطائفية لغة سهلة وتثير غرائز الكراهية البدائية لدى الإنسان، وخصوصا أيضا أنه قد جربت لغة التحريض الطائفي في مرحلة الثمانينات وأدبيات كتاب «وجاء دور المجوس» التي نعرفها كلنا، فلم نجن إلا العلقم، وتغيرت سياسات إيران، مؤقتا، فاختفت هذه الأدبيات. وهذا يذكرنا بعهود المواجهة بين الصفويين والعثمانيين، وكيف أنه صدرت فتوى بتكفير الشيعة من شيوخ الآستانة، ثم لما تم الصلح بين السلطان العثماني والشاه الصفوي صدرت فتوى أخرى من الآستانة بخلاف ذلك.

فعلا هي معضلة صعبة: كيف نحصر المواجهة مع إيران، وهي مواجهة حقيقية وليست خيالية، في أضيق النطاقات، ونبعد عنها الحرب الطائفية والحملات الإقصائية، التي تظلم أناسا من شيعة الخليج، وهم الأكثر، لا علاقة لهم بإيران، بل ولا بكل التيارات الأصولية، وهم من النسيج الوطني القديم.

هنا تأتي المسؤولية الحقة، فإثارة الطائفية حل سهل لمواجهة إيران التوسعية، ولكن كيف نرمم جروح المواطنة التي ستسيل إن وضعنا كل مواطني الخليج الشيعة في سلة واحدة.

تلك هي المسألة وهذا هو التحدي الأخلاقي والسياسي الصعب، وهنا يتميز القادة الحقيقيون.

[email protected]