لبنان وجيشه بين قوة الاندفاع والاندفاع بقوة

TT

الجيش اللبناني الذي تعطل دوره وتراجع مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 والذي تعرض لأكثر من محاولة ضرب وتفتيت وشرذمة فتحول إلى 3 جيوش في بلد صغير بمساحته وعدد سكانه وطاقاته الاقتصادية، استرد وحدته وتماسكه مجددا بعد 1990 وأخذ مكانه على خط المواجهة قدر طاقاته طبعا في التصدي للفتن والمؤامرات الداخلية والوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي أكثر من مرة، دافعا الثمن تحت شعاره المعروف «شرف وتضحية ووفاء».

لبنان وجيشه سجلا قبل أيام سابقة في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها دول العالم العربي، حين وجهت الدعوة إلى أكثر من مائة باحث وأكاديمي وخبير، وطُلب إلى كبار الضباط المشاركة بلباسهم المدني هذه المرة في أربع حلقات نقاش علمي شامل تحت عنوان «المؤتمر الإقليمي الأول حول القضايا الناشئة لتحديد الرؤى ومواجهة التحديات». ثلاثة أيام كاملة أمضيناها في بيروت تحاورنا خلالها حول الطاولة، وليس بعيدا عنها في الشوارع والأزقة، كما هي الحالة الآن في أكثر من بلد عربي مع الأسف، حيث تسود لغة العنف والشدة وإراقة الدماء في بلدان كانت ترى حتى الأمس القريب في لبنان مكانا لتصفية الحسابات وتوجيه الرسائل.

الجيش اللبناني، الذي نجح أكثر من مرة في مواجهة مشاريع التفكيك والتفتيت باسم العروبة والذود عنها أو ضرورة التعاون مع إسرائيل لحماية وحدة لبنان واستقلاله، كان ناجحا هذه المرة ليس في تأكيد استرداده لعافيته وحسب، بل في أن يكون السبّاق في مد يد العون إلى أشقائه العرب لتكون مساهمة لا أكثر في تحديد معالم خارطة الطريق العربي والإقليمي والتحرك باتجاه توحيد الجهود والإرادات وإضاءة شمعة وسط الظلام لمواجهة الأخطار المحدقة.

غريب أمر لبنان، هذا البلد الذي يعيش وسط أزمة حكومية لم تحسم نتائجها بعد، ورغم كل التجارب السياسية والأمنية القاسية التي مر بها يتمسك بإرادة المشاركة في صنع القرار الإقليمي على هذا النحو. هو يستضيف عشرات الباحثين والدارسين العرب والأجانب ليناقشوا في العمق مسائل الأمن وموارد الطاقة والتوترات الإثنية ومشاكل الأقليات وسبل الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة. ويدعونا للاتفاق فيما بيننا على أن أهم دروس مواجهة الانتفاضات والثورات المشتعلة عربيا اليوم هو تحليل البيئة ومعرفة خصائص أرض الواقع إذا ما كنا جادين في مطلب فهم التهديدات والمخاطر المحدقة وتحديد سبل التعامل معها، وعلى أن معرفة متطلبات الشعوب حاجة ضرورية لا بد أن تسبق رسم خرائط الطريق وليس العكس كما يحدث اليوم في أكثر من مكان. والأهم من كل ذلك أن يجمعنا كدارسين عرب وإيرانيين وأتراك وغربيين جنبا إلى جنب؛ نختلف ونلتقي ونخرج بتوصيات وقرارات ويضع في الملفات التي أعدها ووزعها على الحضور خارطة لبنان لنفتحها أمامنا على الطاولة نتأمل في كل مدينة وبلدة وقرية مثلت تقاطع التقاء الحضارات والشعوب على مدى العصور. العميد جان قهوجي قال لنا إن مبادرة الدعوة إلى هذا المؤتمر في مثل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم العربي والمنطقة هي المساهمة ضمن الطاقات والإمكانات في التعامل مع التحديات والمخاطر المحدقة التي لا يمكن تجاهلها، لكن الحقيقة هي أن لبنان أثبت مرة جديدة أنه النموذج المميز في تحويل مميزاته العرقية والدينية والثقافية والعلمية إلى قوة دفع حقيقي لحماية هذا التنوع والغنى أولا، وأنه ثانيا القادر على قول ما عنده وسط هذا البحر الهائج من الأحداث. والرسالة كانت قبل أن نتوحد ونلتقي حول التوصيات والبيان الختامي أن لبنان بخير رغم وجوده في قلب التجاذبات والصراعات العربية والإقليمية والدولية ومنذ عقود.