مع أي «غرب» نتعامل في ليبيا؟

TT

في غمرة ثورة السابع عشر من فبراير (شباط) الليبية، ما زالت تغيب عن الرأي العام العربي كثير من الحقائق عن ليبيا، إذ إن الكثيرين يعتقدون أن ليبيا تعاني مثل كثير من جاراتها من مجرد الاستبداد والفساد ولا يدركون مدى فداحة النكبة الليبية. فهم لا يعرفون مثلا أن القذافي لم يكتف طيلة أربعة عقود بالاستبداد والفساد بل زاد عليهما بتبني الفوضوية منهجا للحكم، مما حول بلدا ذا ثروة طائلة وإمكانيات جغرافية وبشرية متميزة إلى بلد لم يكن فقط يرزح تحت وطأة القهر والفقر بل ضربت فيه الفوضى أطنابها وجرى فيه تفكيك المؤسسات الإدارية والتعليمية والصحية والبنى التحتية تحت سمع القذافي وبصره، نتيجة للأفكار الفجة والنظريات السطحية والتجارب الطائشة التي تمثلت فيما سمي بـ«سلطة الشعب» و«اللجان الشعبية» وغيرها من المظاهر الغوغائية. ولن نذكر هنا إلا مثلا واحدا قد يكفي للتدليل على عمق المأساة الليبية، وهو أن أغلب المرضى من الليبيين منذ سنوات طويلة لا يجدون علاجا إلا في مستشفيات مصر وتونس، إن مكنتهم مواردهم المالية الشحيحة من ذلك، فإن ثارت تونس ومصر فكيف لا يثور بلد هائل الموارد لم تبق فيه حتى أساسيات الرعاية الصحية؟

وبالإضافة إلى غياب الصورة الكاملة عن خلفيات هذه الثورة، طرأ على الرأي العام العربي كثير من التشويش في الآونة الأخيرة بعد قرار مجلس الأمن رقم 1973 بفرض الحظر الجوي وحماية المدنيين في ليبيا. وقد نجم التشويش بالدرجة الأولى عن تبني هذا القرار من قبل دول الغرب الكبرى، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وعن الموقف السلبي لبعض الدول مثل روسيا والصين وألمانيا وتركيا، الذي ألقى ظلالا من الشك حول دوافع وكيفية تطبيق هذا القرار، خاصة بعد إسناد قيادة العمليات إلى حلف شمال الأطلنطي، مما أعاد إلى الأذهان مشاهد لم تزل في الواقع ماثلة للعيان في العراق وأفغانستان.

يضاف إلى كل ذلك المخاوف التي قد تثور لدى البعض حول مصير ليبيا بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) في مصر. فليبيا عمق استراتيجي لمصر، ويخشى البعض احتمال وقوع جارة مصر الغربية في دوامة قد تنداح لتشتت قدرات مصر وتحرمها من التحقيق الكامل لإمكانيات ثورتها الوليدة.

إن لدى دول الغرب الفرصة في ليبيا لتبديد كل هذه الشكوك، وأيضا لحسم السؤال الذي ما فتئ يتردد لعقود طويلة: مع أي غرب يتعامل العرب والعالم غير الغربي بأسره: مع الغرب الاستعماري الإمبريالي أم مع الغرب الحضاري رائد الحرية والديمقراطية؟ إن هاتين اللحظتين، اللحظة الانتهازية واللحظة الأخلاقية ما فتئتا تتصارعان في الضمير الغربي، في كر وفر بين القيم الديمقراطية والأطماع الاستعمارية الإمبريالية. ولكن لعل فرصة تاريخية قد أصبحت مواتية لأميركا بالذات، مع وجود أوباما كأول رئيس أميركي من أصل أفريقي ودعواته للتصالح مع العالم الإسلامي التي سبق وأطلقها في القاهرة واسطنبول، مما قد يمنحه المصداقية لإحداث تحول تاريخي في العلاقات الدولية من غرب الاستعمار والإمبريالية إلى غرب الحضارة والحرية والديمقراطية (ودون إسقاط لحساب المصالح ما دامت في إطار توجه حضاري أخلاقي).

إن المحك العملي الذي قد يكون بداية لجلاء هذه الشكوك هو ما سيحدث في ليبيا في الأشهر، إن لم يكن في الأسابيع، القليلة المقبلة. فإن انجلى الغبار في ليبيا عن دولة لا تزال موحدة وخالية من الوجود الأجنبي وقد رحل عنها القذافي وأولاده ومرتزقته، فستفتح صفحة جديدة ناصعة البياض في تاريخ العلاقات الدولية. وإن انتهى المشهد بتقسيم ليبيا إلى منطقة شرقية تحت سيطرة الثوار ومنطقة غربية ما زال يحكمها القذافي، أو انتهى الأمر باحتلال أجنبي للبلاد، بحيث تقع البلاد فريسة للفوضى وربما لعودة الحكم العسكري والتشظي والتطرف، فقد عاد الغرب الحضاري إلى المربع الأول لكي يثبت وجوده من جديد.

ولعل هناك ثلاثة معايير واضحة يمكن على ضوئها أن نتوقع من الآن ما سيحدث في ليبيا ومن ثم ما سيتكشف عنه موقف الدول الغربية منها:

أول هذه المعايير سياسي وهو الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي. فأهمية هذا الاعتراف تتجاوز بكثير مجرد مساندة هذا المجلس في المرحلة الحالية، إذ يبدد هذا الاعتراف أية شكوك حول احتمالات تقسيم البلاد. فالاعتراف بالمجلس كسلطة شرعية وحيدة في ليبيا سيستبعد تلقائيا اقتصار سلطة المجلس على شرق ليبيا وإمكانية بقاء القذافي في غربها. أما اللجوء إلى الحيل القانونية، مثل حجة أن الاعتراف يكون بالدول لا بالمجالس، أو أن المجلس قد تم الاعتراف به «واقعيا» كـ«محاور»، فقد لا يجدي في الكشف عن النوايا الحقيقية حول وحدة التراب الليبي.

أما المعيار الثاني الذي يمكننا أيضا على ضوئه التنبؤ بما ستؤول إليه الثورة الليبية فيمكن وصفه بأنه تعبوي، وهو تسليح المجلس الوطني الانتقالي لينهض بمسؤولية حماية المدنيين، باعتبار ذلك من الإجراءات اللازمة لتحقيق هذا الغرض وفقا لقرار مجلس الأمن. فلم يعد خافيا أن المواجهة في ليبيا هي بين كتائب القذافي المحترفة المدججة بالسلاح والتي يأتيها المدد عددا وعدة دون انقطاع بفضل أموال القذافي ونفوذه في أفريقيا، وبين ثوار جلهم من المدنيين العزل إلا من أسلحة خفيفة غنموها من تلك الكتائب. وكبديل لتسليح المجلس الوطني مباشرة، يمكن - فور الاعتراف السياسي بأنه السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا - الإفراج عن الأموال الليبية المجمدة في الخارج لتمويل حاجة المجلس من الأسلحة.

المؤشر الثالث على حسن النوايا تجاه مستقبل ليبيا مؤشر ميداني، إذ يجب فورا فك الحصار في غرب ليبيا عن مصراتة والزنتان وبقية مدن الجبل الغربي، لأن ذلك يقع أيضا في صميم حماية المدنيين بموجب قرار مجلس الأمن ولأن ذلك يعني ألا نية لدى الدول الغربية لترك ليبيا تنقسم إلى شرق محرر وغرب تحت رحمة القذافي (المنعدمة أساسا). فالمحاصرون في مصراتة والجبل الغربي مدنيون لا جرم لهم سوى أنهم يريدون من القذافي الرحيل بعد أربعة عقود من الحكم الهمجي. أما التباطؤ في فك الحصار عن هذه المدن، وإن كانت له أسبابه التكتيكية، فقد يقوي الشكوك في وجود مخطط لتقسيم البلاد بحيث يستمر القذافي في سيطرته على غربها؛ ما لم يحسم الأمر عسكريا على غرار التدخل الفرنسي التاريخي الذي أنقذ بنغازي من مذبحة رواندية - بوسنية.

فالاعتراف الصريح بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، وتسليح هذا المجلس، وفك الحصار عن المدن المحاصرة في غرب ليبيا، هو ما يجب المبادرة إليه فورا إن كان فعلا يراد للثورة الليبية ولقوى الحرية والديمقراطية أن تنتصر في العالم العربي.

هذا وتبقى المسؤولية على المجلس الوطني الانتقالي أن يبادر بدوره إلى تبديد أية شكوك تحوم حول مدى التزامه بقيم الحرية والديمقراطية وإقامة الدولة المدنية الدستورية. وقد خطا المجلس خطوة جيدة في هذا الاتجاه عندما أصدر مؤخرا رؤيته للأسس الديمقراطية في ليبيا، التي يجب أن يعقبها دون إبطاء إصدار ميثاق دستوري انتقالي ينص على قواعد دستورية أكثر تحديدا وانضباطا وجدول زمني للانتقال إلى الديمقراطية بعد الزوال النهائي للعهد الديكتاتوري الهمجي، بدلا من مجرد الرؤية العامة. وقد تم التقدم لرئيس الفريق التنفيذي الانتقالي بمشروع هذا الميثاق لعرضه على المجلس على أمل إصداره قريبا. فعلى المجلس تنظيم صفوفه، والتزام الشفافية في برنامجه السياسي، وتقوية حضوره الإعلامي، لئلا يدع مبررا لعدم الاعتراف به.

تبقى كلمة أخيرة لإزالة أي لبس قد يعلق بالأذهان نتيجة محاولة التمييز بين الوجه الاستعماري الإمبريالي والوجه الحضاري للغرب. فليس هذا التمييز تبسيطيا بحيث يغفل عن عامل المصالح السياسية والاقتصادية. ولكن تفسير التدخل في ليبيا بدافع المصالح لا غير قد يكون في ذاته تفسيرا تبسيطيا سطحيا، مثل تعليل هذا التدخل بمجرد السيطرة على النفط، وكأن القذافي كان يمنع النفط عن الغرب! فالمصالح موجودة بالطبع وبكل قوة في البعد الاستعماري الإمبريالي، وقد لا تغيب أيضا عن البعد الحضاري شريطة اندراجها ضمن التوجه الحضاري الأخلاقي العام بحيث لا تتعارض معه ولا تتقدم عليه بل تأتي كمنتج جانبي له. فمن غير الواقعي ألا يتوقع الغرب ازدهار مصالحه في ليبيا المستقبل، بل إن من غير الواقعي أن ننفي أيضا حضور المصالح السياسية الحزبية للساسة الغربيين في مساندتهم للقضية الليبية لتحقيق أهداف حزبية أو انتخابية، أو لاستدراك ما فاتهم من مكاسب سياسية من الثورة المصرية أو التونسية، ما دامت هذه المصالح العامة والخاصة تتكامل مع القيم وتجري في مسارات ضمن طريق عام واحد هو التوجه الحضاري الأخلاقي، وما دامت العلاقات مع ليبيا الحرة لن تخرج عن إطار الاحترام المتبادل ولن تحرم ليبيا من الدور الذي تتطلع إليه كعنصر استقرار وازدهار في المنطقة وكجزء لا يتجزأ من أي إجماع عربي يتبلور في العالم العربي الكبير بعد أن تصل الثورات التي تهب عليه هذه الأيام إلى مداها.

* عضو فريق صياغة مشروع الميثاق الدستوري الانتقالي الليبي