كيف يفكر المحافظون في طهران؟

TT

في مساء يوم صيفي حار من عام 1988، كان آية الله الخميني يؤدي الصلاة على كرسيه حينما أبلغه أحد مساعديه بأن طائرة إيرانية مدنية قد تحطمت وهي في طريقها إلى مطار دبي، وأنها ربما أسقطت عن طريق البحرية الأميركية المتمركزة في الخليج. أوصى الإمام بأن تتوخى الأجهزة الرسمية الحذر، وأن لا تستعجل الرد؛ فإيران لا تزال في حرب مع العراق، وقدرات إيران العسكرية والاقتصادية في أسوأ حالاتها. اتبعت الأجهزة الرسمية التعليمات، فتم إسناد ملف الأزمة إلى مجموعة قليلة من الشخصيات المقربة من المرشد الأعلى، وعلى الرغم من سيل التصريحات المنددة، فإن المظاهرات تم منعها في أغلب المدن الإيرانية، وتم الاقتصار على مظاهرة مرتبة من قبل عناصر «الباسيج» الموالية، وحين احتدم النقاش في المجلس حول تراخي النظام في الرد على الضربة الأميركية، بعث الإمام الخميني برسالة يطالب فيها الأعضاء بإعمال «الحكمة»، و«المصلحة»، وإعطاء فرصة للحل الدبلوماسي.

ولكن لماذا اللجوء للدبلوماسية مع «الشيطان الأكبر»؟

حادثة كهذه، كان يمكن أن تتحول إلى مظاهرات حاشدة شعبية ورسمية، ولكن على الرغم من كل مظاهر العداء لأميركا وخطب التحريض والإدانة التي تملأ إيران، فإن الرد تجاه الحادثة كان هادئا. هناك سببان؛ أحدهما ظاهر، وآخر مسكوت عنه، دفعا بآية الله الخميني وكبار رجاله إلى الامتناع عن استغلال الحادثة. أما الظاهر، فهو أن إيران كانت على وشك الانتهاء من التفاوض مع العراق حول وقف إطلاق النار، وأما السبب الخفي - ولعله الأهم - هو أن النظام كان يخشى غضب الشارع. خلال العامين اللذين سبقا الحادثة، نجحت إيران في التقدم على خطوط الجبهة الحربية مع العراق، وإزاء محاولات العراق التلويح بتسوية سلمية، أصر الخميني ورجاله على أنهم منتصرون، وأنهم لن يقبلوا التسوية حتى يخسر نظام البعث ويقر بالهزيمة، ولكن التقدم الإيراني لم يكن ليستمر مع تلقي العراق أسلحة أكثر تطورا. خطاب النظام الصارم تجاه دعوات إيقاف الحرب، إضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، خلقا حالة عارمة من السخط الشعبي.

وأمام تنامي الأصوات الرافضة للحرب، أعلن الخميني عن حملة دينية كبيرة تدعو الشباب إلى الشهادة، وفي ضوء تلك الحماسة الزائفة أرسل النظام مئات الشباب إلى جبهات القتال دون تدريب عسكري كاف، أو معدات ضرورية، وقد ربط كل شاب حول عنقه مفتاحا بلاستيكيا يرمز إلى مفتاح الجنة التي سيدخلها فور استشهاده. لم تفلح تلك المحاولات البائسة، وازداد الغضب الشعبي إلى الحد الذي اضطرت معه الحكومة إلى حظر المظاهرات خوفا من تحولها إلى مظاهرات مناوئة للنظام، وفي رسالة يتذكرها كثير من الإيرانيين، كتب مهدي بازركان - رئيس الوزراء الأسبق - إلى الإمام الخميني: «إذا كنت تعتقد أن علينا أن نضحي بأنفسنا وحقوقنا من أجل تصدير وفرض الثورة الإسلامية.. فلك أن تختار، ولكن ينبغي أن لا يفرض ذلك على الجميع.. منذ 1986 وأنت لا تتوقف عن إعلان النصر، والآن تطالب الناس بالتضحية حتى النصر. أليس هذا إقرارا بالفشل من جانبك؟ متى ستتوقف عن المتاجرة بدماء شهدائنا؟».

اليوم تواجه المنطقة أحداثا مماثلة، فالنظام الإيراني يعاني منذ 2009 حالة من الانقسام الداخلي، وتخوفا من الشارع بعد انقلاب المحافظين والحرس الثوري على نتائج الانتخابات، ولهذا فإن النظام قد منع المظاهرات المؤيدة - لما يسميه - «الثورات الإسلامية» التي تجتاح دول المنطقة تخوفا من أن تتحول تلك المظاهرات إلى انتفاضة شعبية مناوئة للنظام. في رد فعله على بيان وزراء الخارجية الخليجيين المندد بمحاولات إيران زعزعة الاستقرار في البحرين والكويت، قال الرئيس محمود أحمدي نجاد: «لا توجد أي قيمة قانونية لهذا الإعلان الذي اعتمد تحت ضغط من الولايات المتحدة وحلفائها.. ومن الشائن إرسال قوات (درع الجزيرة). اسحبوها».

من الواضح أن المحافظين في إيران فوجئوا بتدخل قوات «درع الجزيرة» في البحرين، وبالأخص من بروز موقف خليجي موحد تجاه إيران. لأكثر من ستة أعوام تعود المحافظون في إيران على أن يصعدوا من لهجة خطابهم وأن تكتفي دول المنطقة بتصريحات مقتضبة، وكانوا يؤمنون بأن الاختلافات والانقسامات بين دول الخليج ستمنع من تكوين موقف موحد لمعارضة تدخلاتهم. المحافظون، ومنذ عودتهم إلى السلطة في 2005، يراهنون على أن خير وسيلة للدفاع عن النظام هي في استخدام لغة المواجهة، والتخطيط مع حلفائهم لفرض أجندة «المقاومة» و«الممانعة»، وإعادة تفعيل نشاطهم الاستخباراتي في دول الخليج. ولهذا كانت فرق الموت في العراق، وحرب لبنان 2006، وما تلاها من استيلاء حزب الله على بيروت في 2008، وحرب غزة في2009.. كلها تسير وفق خطة منظمة لتقوية النفوذ الإيراني بعد سقوط بغداد ومجيء حكومة عراقية مهادنة لطهران. علينا أن نتذكر أن المحافظين خرجوا من الرئاسة في انتخابات 1997، ولكنهم ظلوا ممسكين بالأجهزة الأمنية والعسكرية كافة، ويكفي القول إن عشرات حالات التجسس التي تم ضبطها في الخليج كانت قد بدأت مع إعادة تفعيل النشاط الاستخباراتي الإيراني في عام 2001.

لا شك أن رد الفعل القوي والحاسم لدول الخليج قد أربك حسابات النظام في طهران، وهو قد جاء في وقت حساس؛ فإيران التي سعدت بسقوط بعض الأنظمة العربية جراء الانتفاضات الشعبية، تحس هي أيضا بأنها معرضة للخطر الداخلي ذاته، فأي مظاهرة أو ضعف داخلي قد يتحول إلى حركة شعبية مناوئة للنظام. هي أيضا، لا تستطيع أن تقف ساكتة إزاء ما حدث لبعض عناصر المعارضة في البحرين المحسوبين عليها، ولكنها في الوقت ذاته قد لا تستطيع التدخل بشكل مباشر ليس بسبب وجود القوات الأميركية في الخليج، بل لأنها إذا ما تدخلت فستواجه دول الخليج مجتمعة، وهي دول باتت اليوم تملك من القوة العسكرية والتجهيزات ما يجعل إيران تدرك أنها قد لا تتمكن من إحراز نصر سريع أو خاطف، بل ربما تخسر حتى في وجود ترسانة كبيرة من الصواريخ البالستية.

إيران قلقة - أيضا - من الوضع في سورية، وهي تدرك أن تغيير النظام في سورية قد يعرض مصالح إيران للخطر، بحيث ينقطع الدعم اللوجستي عن حزب الله وحماس، وحيث تضعف قدرتها على التأثير في الساحة السياسية العراقية.

على دول الخليج أن تدرك أن النظام الإيراني يشعر بحالة حصار شديدة، ولديه قلق من أن تتسبب الأحداث الإقليمية في إعطاء المعارضة الشعبية القدرة على النهوض مجددا بعد قمعها عقب انتخابات 2009، ولكنها في الوقت ذاته تحس بأنها أمام معركة بقاء ضرورية، ولهذا قد تلجأ إلى أقسى الحلول لتصدير الأزمة إلى الخارج تحت شعاري «الطائفية» و«مقاومة أميركا وإسرائيل». بيد أن فرص لجوء طهران إلى حرب مفتوحة قليلة، لأنها ستكون مكلفة للغاية - على الأقل في المرحلة الراهنة - إذ لا يسمح الوضع الاقتصادي المتدهور لإيران بتوقف صادراتها من النفط ولو ليوم واحد، حيث إن بضع سنوات من العقوبات الإضافية قد أضعفت الجاهزية التعبوية للنظام.

هذا لا يعني الركون إلى الدعة، أو التقليل من قدرات إيران على الرد، ولكن أن تعي دول الخليج أنها قد نجحت في تدخلها الاستباقي مبدئيا، وأن عليها أن تستثمر ذلك سياسيا عبر التحرك باتجاهين: داخلي، من خلال إيجاد حلول سياسية للتخفيف من الاحتقان الطائفي في الخليج بحيث تقطع على طهران فرصة استغلاله. وخارجيا، من خلال التفريق بين المحافظين والمعارضة الإيرانية في الداخل في الخطاب الخليجي الرسمي، وإبقاء الباب مواربا للتفاوض مع إيران مستقبلا إذا ما رغبت في التهدئة، وينبغي أن يكون ذلك وفق استراتيجية موحدة تجاه ما ينبغي على الإيرانيين القيام به لاستعادة الثقة بين الطرفين.

لقد كان المحافظون في طهران دائما يغامرون، وينخرطون في خطاب العداوة والتصعيد مع الآخر، ولكن في الحالات التي كان يجب عليهم أن يختاروا بين بقاء النظام أو سقوطه، فقد كانوا مستعدين للتراجع، وهذا ما يجب على قيادات الخليج التفكير فيه.