ورطة الطائفية

TT

التنوع الإنساني يجعل من التسامح ليس فضيلة فحسب؛ بل شرطا للبقاء. دبليو سومرست

ورطة «الطائفية».. أقرب تعبير يمكن استخدامه الآن للحديث عن ارتفاع منسوب الطائفية والجدل معها وضدها وحتى السكوت عنها بحكم هذا التداخل المربك وبالغ التعقيد بين القراءة السياسية والدافع الأخلاقي والجانب الحقوقي والنزاع الديني في شكله العقائدي والمذهبي الذي تجاوز إطار المنابر والحوزات ليستخدم كل وسائل الحداثة في شكلها التقني والتعبيري دون المفاهيمي.

إذا تحدثت اليوم عما يهدد دول الخليج عبر اختراق الحالة البحرينية في ظل حالة التجييش والتعبئة من قبل إيران وحلفائها في العراق ولبنان والمتعاطفين معها في مناطق أخرى فأنت طائفي حتى لو كان حديثك حديثا سياسيا خالصا لا علاقة له بالمجال الديني أو حقوق الأقليات أو شرعية المطالبة بالحقوق، في نفس الوقت إن تحدثت بصراحة عن أن هذا التمدد المرضي للسياسة الإيرانية يحدث رد فعل «طائفي» مضاد قد ينقله من المجال السياسي إلى التعبئة الدينية الجماهيرية التي تستمد ضراوتها من التراث الهائل والضخم والذي يتجاوز أطر الدول إلى الاصطفاف إلى الثنائية التاريخية (سنة/شيعة) والتي تتجاوز الأزمنة لتحضر في الأزمات على شكل انفجار هوياتي؛ فأنت في نظر الطرف الآخر طائفي بامتياز وفي نظر الطرف الأول سياسي لا تنظر إلى المسألة أبعد من شكلها الطارئ والعابر.

وقل ما شئت هنا من استحضار لنظريات المؤامرة وسيناريوهات المخططات والتحالفات السرية، فضلا عن لغة الشحن الديني التي تشكل عامل ضغط على جميع الأطراف بدءا بصانع القرار فالسياسي فالمثقف وربما المراقب الخارج عن لعبة الثنائيات تلك.

هذا الارتباك - في اعتقادي - ناشئ عن إشكالية مفاهيمية في الأساس تجعل الكثيرين سواء من معتدلي الشيعة الذين يقدمون أولوية المواطنة على الانتماء المذهبي وهو حق مشروع لهم، أو من عقلاء السنة الذين يرون أن رفض المشروع الإيراني التوسعي لا يعني عدم احترام حق المواطنة الكاملة للإخوة الشيعة على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، هذه الإشكالية تتمثل في عدم التفريق بين نمطين من الطائفية، الطائفية السياسية والطائفية الدينية، فالأولى تعبر مشروع سياسي مرفوض لكثير من دول المنطقة وليس دول الخليج التي ترى فيه تدخلا سافرا في السيادة، بينما تظل الطائفية الدينية خيارا مرفوضا بالمطلق باعتباره أحد أهم عوامل تهديد واستقرار المجتمعات التي تزخر بتنوع ثقافي وفكري ومذهبي وديني من شأنه أن يتحول إلى رافد غني وثري للتعايش على أساس المواطنة.

صحيح أن الطائفية كمفهوم تعود صيغتها «المعاصرة» كمصكوكة عقائدية غير قابلة للتبديل إلى صراعات «لاهوتية» إن صح التعبير عن الصراع التاريخي الذي تحول لأسباب كثيرة إلى مفترق عقائدي بالأساس، حيث الاتكاء التاريخي والاستدعاء لمرحلة الخلاف المبكر بين الصحابة وهو نزاع سياسي بامتياز، وما تبع ذلك من فتن وأزمات تكللت بانتهاء ما يوصف عادة بـ«الحقبة الراشدية» على يد الدولة الأموية، التي كانت في حقيقتها ذات توجهات برغماتية سياسية أكثر من تعبيرها عن الدولة الدينية.. ثم جــاءت الفترة العباسية التي حرص زعماؤها على الاستفادة من الدرس الطائفي بشكل كبير، من خلال الاستقطاب المذهبي الطائفي عبر التأسيس على أحقية الانفراد بالسلطة لأسباب سلالية محضة، وهي أحداث كانت وما زالت محل جدل طويل في تحليل مسبباتها ونتائجها.

إلا أن «طائفية اليوم» لا علاقة لها بالطرح الطائفي التقليدي ذي النزعة العقائدية، طائفية اليوم نسق مغلق ينتمي للمجال السياسي أكثر من كونها محصلة دينية أو عقائدية تشبه إلى حد كبير، طبقا للمفكر برهان غليون، «السوق السوداء» في عالم السياسة، وليست مجرد أفكار دينية متشددة، أو تعصب مذهبي له موقفه السياسي المحدود.

بينما يقرأه حازم صاغية في الكتاب الذي أشرف عليه بعنوان: «روافض ونواصب: منازعات السنة والشيعة في العالم الإسلامي اليوم» (كنزاع عاش طويلا ضامرا أو محورا لكنه أصبح عابرا للأزمنة ومضامينها التقنية والثقافية، تتقلص حياله النزاعات الأخرى: لا يمين ولا يسار، ولا تطرف ولا اعتدال، ولا موالاة للغرب ومعارضة له، فكل تلك التصانيف الحداثية وشبه الحداثية، تنكمش لمصلحة «الأصلي» و«الخام» الذي نرتد إليه في اللحظات الحاسمة: سنة وشيعة).

للأسف اليوم تترسخ الطائفية السياسية على أساس متين من الطائفية الدينية، ومع كل المحاولات التي بدأت مع عصر النهضة، لإيجاد صيغة توحيدية بين المذهبين السني والشيعي في ظل صعود دعوات الوحدة من قبل رموز النهضة، فإن كل تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح وحق لها، لأنها كانت ذات صيغ وأهداف «تلفيقية»، تحاول البحث عن المشترك، وهو مجمل وعام «أصول الإسلام الكبرى»، وتتجاهل كل ما هو تفصيلي وخاص، وهي الأفكار والمقولات التي بنيت شرعية كل الطوائف والجماعات الدينية عليها، سواء كانت في شكلها العقائدي أو الفقهي، بحيث إن أي انتقاص من تلك «التفاصيل/الهوية»، يعني مساسا بالشرعية، وهذا ما يحتاج إلى مراجعات طويلة وعميقة لا تغوص في رمال المعارك التاريخية بل تحاول الخروج من وحل الواقع الطائفي اليوم لتحاول أن تصل إلى صيغة تعايش قائمة على مبدأ المواطنة.

من هنا يمكن فهم ردود الفعل العنيفة التي تطال اليوم جهود رموز معتدلة من السنة والشيعة، تحاول أن تخفف من الاحتقان الطائفي في شقه الديني، سعيا إلى تجنيب المنطقة كوارث الطائفية السياسية التي تدق ناقوس الخطر منذ سقوط العراق، وصولا إلى الحالة اللبنانية، والآن مرورا بأحداث اليمن فالبحرين ووصولا إلى حالة الغليان التي نجح نظام أحمدي نجاد في إيقاد جذوتها بعدما تفاءلنا طويلا في ربيع المرحلة الخاتمية.

منطق الطائفية السياسي لا يمكن أن يؤمن بمشاركة جميع الفئات بشكل متوازن في المنظومة السياسية الحاكمة، فالتوازن المطلوب لهكذا تمثيل معرض بشكل دائم للفشل في حال طغت طائفة على أخرى، أو قامت أي طائفة باستغلال مركزها في الدولة، أو قدراتها الاقتصادية أو حتى تمددها الديموغرافي، إن الحقيقة التي يفرزها الواقع أن كل الممارسات الطائفية في المشهد العربي العريض قد حولت الانتماء الروحي والديني عبر كيانات متعايشة إلى دويلات مستقلة ذات أهداف مستقلة، حيث أصبح لكل طائفة مدارسها وجامعاتها وبرامجها، وصحف تصدر باسمها، وإذاعات ومحطات تلفزيون تذيع أخبارها ونشاطاتها وغير ذلك من مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهذا ولا شك منطق غير مقبول لأي دولة ذات سيادة بنيت على أساس غير طائفي، لا البحرين يمكن أن تتحول إلى لبنان ولا أتباع الحوثي يمكن أن يحول صعدة إلى الضاحية الجنوبية مهما آلت الأوضاع.

في اعتقادي أن ما يهم الآن، هو إيجاد صيغة تعايش سلمية يجترحها عقلاء الطرفين، مع الاحتفاظ بمحددات الهوية الرئيسة ولهم في نماذج استطاعت تجاوز الفرز الطائفي كنموذج شيعة قطر والإمارات وعدد كبير من رموز ومعتدلي الشيعة في السعودية ممن هم بحاجة إلى موقف تاريخي مبني على التفريق بين الطائفية السياسية التي يجب أن لا يجعلهم الانتماء المذهبي منساقين خلف أوهامها.

هذه الصيغة يجب أن تكون «مدنية» تدخل في إطار العلاقة التي تحكم بين المواطنين ضمن العقد الاجتماعي العام، وهو عبء قانوني وتشريعي بالأساس.

إن صمت المثقفين اليوم في العلن وقلقهم ومخاوفهم التي يبدونها في حوارات جانبية خوفا من تهمة الطائفية من أي من الطرفين جزء من المشكلة التي ليست في جذرها سوى مشروع سياسي يتوكأ على عصا الطائفية ويلبس إهابها ويتحدث بلغتها وهي بحاجة إلى شجاعة في النقد تشبه كثيرا تلك الشجاعة التي قالها عدد من المثقفين تجاه تيارات التطرف والإرهاب ذات المنزع والشعارات السنية وهي ذات الشجاعة المطلوبة في نقد مشروع الإسلام السياسي الذين يتذرع بالديمقراطية وصولا للانفراد بسدة الحكم، فهذه التمظهرات لا تعبر سوى عن جذر من تسييس الدين وفق رؤية محددة ومؤدلجة وهو الأمر الذي قرأه العلامة السيد علي الأمين حين قال ذات سياق بأن «مستقبل الإسلاميين الشيعة لا ينفصل عن مستقبل الإسلاميين بصورة عامة، وأنا أعتقد أن ظاهرة النزعة السياسية الإسلامية التي برزت في العقود الأخيرة هي ظاهرة إسلامية وليست شيعية وحسب، ولذا أعتقد أن مصير هذه الحركات متشابه وقد يصل إلى حد التصادم».

إن الدخول في النسيج الوطني يجب أن يكون مبنيا على فهم وقبول بل وإيمان راسخ بدولة المواطنة وليس عبر المشاركة المبنية على ذاتية طائفية أو عقائدية وهو الأمر الذي غاب ويغيب عن كثيرين.

[email protected]