الشيخ الأعمى و(العصعوص)

TT

قرأت أن رجلا إيطاليا تظاهر بأنه كفيف أعمى طيلة (40 عاما) كاملة حتى يتمكن من الحصول على إعانة العجز، والرجل الذي يبلغ من العمر 72 عاما ويعيش في مدينة (لا سبتسيا) بشمال إيطاليا قضى أكثر من نصف عمره وهو يدعي العمى على الرغم من أنه عمل لنحو 25 عاما في مجال الرعاية الاجتماعية، وحصل الأعمى المزعوم على جميع المزايا التي يكفلها القانون للأشخاص المعاقين وليس على إعانة العجز فحسب، إذ كان يستمتع على سبيل المثال لسنوات طويلة بالأماكن المخصصة للمعاقين في وسائل المواصلات. وكشفت الشرطة المحلية بعد سنوات من التحريات عن الخداع الذي مارسه الرجل لسنوات طويلة وتم تقديمه للمحكمة.

وهذا الرجل ذكرني بشيخ وقور ما زال حيا يرزق وله مكانته الاجتماعية والوظيفية المرموقة، وقد صادفته يوما عند أحد المسؤولين في إحدى الدوائر الحكومية، وكنت أنا وهو وأحد المراجعين فقط جالسين في مكتب ذلك المسؤول وتعرفنا على بعضنا البعض بالأسماء، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث لمدة ربع ساعة تقريبا، وبعدها استأذن الشيخ الأعمى الكفيف وأتاه مرافقه ليقوده خارجا - وللمعلومية كانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهده فيها.

وبعد أربعة أعوام أو تزيد قليلا قدر لي أن أذهب إلى الرياض ومكثت هناك ثلاثة أيام، وخلالها دعاني أحدهم لتناول الغداء في منزله، وبينما كنت جالسا بأمان الله مع المدعوين، وإذا بالشيخ الأعمى يدخل علينا، فقمنا لدخوله احتراما، وأخذ يصافحنا واحدا واحدا، وعندما وصل لي ومددت له يدي مرحبا، وإذا به يقول لي بالحرف الواحد عندما سمع صوتي المبحوح: أهلا يا مشعل لقد مضى لي عدة أعوام ولم أسمع فيها صوتك.

هل تصدقون أنني بُهت، بل وكاد يغمى علي، وأخذت أتساءل بيني وبين نفسي: معقول؟!، كيف عرفني من صوتي؟!، وبدأت أشك يقينا أنه ليس بأعمى، أكيد أنه ممثل بارع، وإن لم يكن ذلك فلا شك أنه جني متلبس بصورة إنسان، خصوصا أن شكله كان بالفعل (horrible)، وبدأ الخوف في الحقيقة يهز أوصالي إلى درجة أنني قررت الانسحاب والخروج دون أن أتناول الغداء، غير أن مضيفنا صاحب المنزل أرغمني على الجلوس، وشاءت الصدف أن يكون مقعدي على طاولة الطعام بجانب مقعد الشيخ الذي أخذ يحثني على الأكل ويقطع لي بيده الغليظة من اللحم قائلا لي: لا تستحِ كُل، ماذا تحب من اللحم، هل تحب الضلوع؟!، وتناول مجموعة من الضلوع ورماها أمامي، ثم أردف ضاحكا وهو يقول: أما أنا فإنني أحب لحمة الكتف، لأنني أعرف من أين تؤكل (ها ها ها)، ثم امتدت يده للكتف دون تردد وكأن هناك مغناطيسا قد جذبه إليها، وبعدها قال: إنني أيضا أحب العصعوص، ولأول مرة أسمع أن هناك في الذبيحة شيئا اسمه العصعوص، وعندما استفسرت منه مجاملا عن ماهية ذلك العضو، قال لي وهو يقهقه وحبات الأرز تتناثر من فمه الواسع على الصينية الكبيرة، قال: صحيح أنك جاهل يا مشعل، العصعوص هو العضو الذي يكون (مدفوس) خلف (الذنبة) - أي إلية الخروف - ثم امتدت يده إلى ما تحت الإلية وأخرجه قائلا لي: هيا تناوله من يدي، وما صدق على الله أنني اعتذرت منه، حتى أخذ ينهشه بأسنانه الصفراء المتراكبة فوق بعضها البعض قائلا لي: ليس هناك ألذ من العصعوص غير شحم (الذنبة)، ولكن للأسف أن الأطباء حذروني من تناولها خوفا عليّ من ارتفاع نسبة (الكولسترول) في دمي.

لا تسألوني بعدها عن الأكل الذي أكلته في تلك المائدة العامرة، فلم أتناول وقتها - يعلم الله - غير أربع ملاعق صغيرة من (الكريم كراميل)، وإنني إلى الآن وكلما شاهدت ذلك الشيخ في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية أسأل نفسي، هل هو أعمى بالفعل يا ترى، أم أنني أنا الأعمى؟!

[email protected]