«ربيع» الجيوش العربية

TT

المتفائلون بمستقبل الديمقراطية في عالمنا العربي يرون في أحداث تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية بوادر لا تخطئ عن حلول ما يسمونه «ربيع الشعوب العربية».

أما الواقعيون فيكتفون بنعتها بـ«ربيع الجيوش العربية»، انطلاقا من الدور الذي لعبته جيوش هذه الدول، إما في ترجيح كفة «ربيع» الديمقراطية.. وإما في إحباطه - إن لم يكن قمعه.

من المكابرة التقليل من دور المؤسسات العسكرية في التاريخ العربي الحديث؛ ففي إطار الكيانات السياسية طرية العود، التي خلفتها الدول المستعمرة بعد الحرب العالمية الثانية، برزت الجيوش العربية كعمود فقري لدولها، وفي الكثير من الحالات كانت المؤسسة الفعلية التي حولها يتمحور النظام السياسي ومنها يستمد «شرعيته» - إن جاز استعمال هذا التعبير خارج نطاقه الدستوري.

في معظم الدول العربية، ودول الشرق الأوسط تحديدا، تعزز دور الجيوش في الحياة العامة بعد عام 1948؛ فقيام الدولة اليهودية وفشل الأنظمة العربية آنذاك في التصدي لاحتلالها للأراضي الفلسطينية أضفيا على الجيوش العربية بعدا قوميا عزز موقعها على الساحة السياسية الداخلية.. لكنه فتح الباب، في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، لعصر الانقلابات العسكرية التي كانت تسمى، مجازا، الثورات.

قد لا يكون من المبالغة بشيء القول إن الأنظمة الراهنة في دول الشرق الأوسط هي الوريث السياسي لعصر الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات.

في مصر بدأ عهد الرئيس «المتنحي»، حسني مبارك، كامتداد لانقلاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل أن يتحول من نظام رئاسي عسكري إلى نظام عائلي.

في العراق تسلق صدام حسين هرم السلطة على أكتاف انقلاب عسكري نفذه حزب البعث عام 1968. ولولا الاجتياح العسكري الأميركي للعراق لكان قد استمر نظامه في بغداد إما بشخصه وإما بورثته من أبنائه.

في سورية لا يختلف اثنان على أن نظام الرئيس بشار الأسد هو الوريث المباشر للانقلاب العسكري الذي قاده والده الرئيس الراحل حافظ الأسد، عام 1970 - في إطار ما سمي الحركة التصحيحية - وذلك على حساب انقلاب عسكري سابق نفذه حزب البعث عام 1963.

حتى في لبنان - حيث الفسيفساء المذهبية تلعب دور الحاضنة لديمقراطيته الهشة - لم يبق جيشه بمنأى عن السياسة، مع فارق واحد هو اختصار دوره بشخص قائده. وهكذا انعكس تعاظم الدور السياسي للمؤسسات العسكرية في المنطقة العربية في تولي ثلاثة جنرالات (فؤاد شهاب وإميل لحود وميشال سليمان) رئاسة لبنان في بحر نصف قرن من الزمن.

أحداث تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن حولت الجيوش العربية إلى «الخصم والحكم» حيال تلك الظاهرة المشتركة بين كل الحكام العرب «المنتخبين»: العداء المستحكم لمبدأ تداول السلطة.

وتطورات أحداث هذه الدول أثبتت أنه حيث تميل المؤسسة العسكرية يبزغ «ربيع» الديمقراطية أو يحل «خريفها» في عالمنا العربي التائق إلى ولوج القرن الحادي والعشرين من بوابته السياسية العادية.

في تونس ومصر أتاح احتضان مؤسستي البلدين العسكريتين لانتفاضة شارعيهما انبلاج ربيع واعد بديمقراطية منتظرة، مهما قيل فيها تظل نظاما متقدما على النظام السلطوي الذي تخلف.

في ليبيا أدى غياب المؤسسة العسكرية - بمفهومها الحديث - واعتماد نظام القذافي على «كتائب أمنية» لدعم سلطته المنهارة، إلى حرمان انتفاضة الليبيين من مظلة قادرة على احتواء عملية تغيير النظام. وقد يؤدي غياب الجيش النظامي إلى تحول الانتفاضة الليبية إلى حرب أهلية أشبه بالحرب الإسبانية (1936 - 1939)، أي مفتوحة على كل احتمالات التدخل الخارجي.

أما في سورية، حيث الثلاثي العسكري والأمني والحزبي هو عماد النظام وسنده، فلا يبدو أن تفتح أزهار الربيع ممكن من دون عملية فك ارتباط مستعصية بين مكونات هذا النظام.