الشرق الأوسط وأساطيره

TT

منذ أن ظهر الشرق الأوسط كمصطلح جغرافي سياسي في الأربعينات من القرن الماضي، ظهرت مع هذا المصطلح أساطير شوشت على عملية تحليل الأحداث داخل المنطقة. ومن هذه الأساطير أنه لا يمكن الدخول في حرب من دون مصر.

ويظهر نصف القرن الماضي صورة مختلفة لذلك الوضع، فلم تشترك مصر في الحرب التي وقعت بين إيران والعراق واستمرت على مدار ثمانية أعوام. كما لم تشارك مصر في الحرب على منطقة الصحراء الغربية. ولم يكن ثمة مساهمة مصرية في الحربين من أجل إخراج العراق من الكويت وبعد ذلك عملية الإطاحة بصدام حسين. وفي وقت أقرب لم يكن لمصر دور في حروب أصغر بين إسرائيل وحماس في غزة وإسرائيل وحزب الله في لبنان، ومن نافلة الذكر الحرب الأهلية في اليمن والجزائر وحرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني على مدار 30 عاما. وربما يذكر البعض 32 عاما من الحروب داخل أفغانستان.

وتوجد أسطورة أخرى مماثلة، وهي أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام داخل الشرق الأوسط من دون سورية.

ومع ذلك، فقد شهدنا مصر والأردن يتوصلان إلى سلام مع إسرائيل من دون سورية. ورأينا منظمة التحرير الفلسطينية تتواصل مع إسرائيل في إطار عملية سلام. ولا توجد علاقة بين سورية، وسلام أميركا في أفغانستان والعراق بعد سقوط حركة طالبان داخل كابل والبعثيين في بغداد.

وتوجد أساطير قريبة من هاتين الأسطورتين.

أولا: سورية هي رأس الحربة في المقاومة ضد إسرائيل. ولكن تعكس الحقائق صورة مختلفة؛ فمنذ 1967 لم يهاجم أحد إسرائيل من الأراضي السورية. ومن الأسباب وراء انفصال ياسر عرفات عن دمشق أنها لم تكن لتسمح بأي عمليات من سورية.

ويفاجئ زوار شمال إسرائيل بغياب القوة العسكرية في هضبة الجولان، فيما يظهر وجود إسرائيلي قوي على امتداد خط وقف النيران مع لبنان. ومن الواضح أن إسرائيل لا تتوقع هجمات من سورية، فيما يعتبرون «العمليات الإرهابية» من لبنان تهديدا مستمرا. ويصف الإسرائيليون خط وقف إطلاق النيران مع سورية بأنه «حدهم الأكثر أمنا». وفي الوقت الحالي عبر الكثير من المعلقين السياسيين عن شعورهم بالخوف إزاء احتمالية تغيير النظام الحاكم في سورية. وفي مقال نشر مؤخرا حذرت صحيفة «هآرتس» من أن سقوط الأسد قد يطرح تهديدا أمام إسرائيل.

أسطورة أخرى: ينتمي النظام الحاكم في سورية إلى اليسار «المضاد للإمبريالية».

ولكن هل هذا صحيح؟

كان الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد، وكان يشغل حينها منصب قائد القوات الجوية، في السبعينات من القرن الماضي عبارة عن تحرك من الجناح اليمين بحزب البعث الاشتراكي العربي ضد اليسار الذي يقوده صلاح جديد.

وكضابط شاب انضم الأسد إلى حزب البعث، الذي كان حينها على قالب الحركات اليمينية المتطرفة الأوروبية مثل الحزب الفاشي في إيطاليا قبل الحرب. وكان منظّر البعث الرئيسي وأحد مؤسسي الحزب ميشال عفلق فاشيا بالصورة الكلاسيكية. وحين اندمج الحزب الاشتراكي العربي، ومؤسسه أكرم الحوراني، مع حزب البعث أصبح للحزب الجديد لمسة يسارية. وبعد الاندماج أبقى البعثيون الأصليون على تاريخهم في اليمين.

وفي عام 1970 اعتبرت طهران، تحت حكم الشاه، وواشنطن، تحت حكم الرئيس نيكسون، انقلاب الأسد على أنه نكسة للاتحاد السوفياتي.

وأظهر الأسد التغيير في الاتجاه داخل سورية من خلال رفض تقديم المساعدة إلى الفلسطينيين في الأردن خلال مذابح سبتمبر (أيلول) الأسود.

ومع اختفاء الجناح اليسار في النظام السوري، تحولت حكومة الشاه إلى تطبيع العلاقات مع دمشق. وكان من بين الإجراءات رفع الحظر على سفر الصحافيين إلى سورية. وقد ساعدني ذلك على الذهاب إلى دمشق وإجراء مقابلة مع الأسد. ونشرت تحت عنوان «ساعة ليبرالية في سورية».

تركت ساعة مع الأسد انطباعا بأن سورية كانت تتحرك بعيدا عن السياسات اليسارية التي تبناها الرئيس نور الدين الآتاسي ورئيس الوزراء يوسف زعين و«الرجل القوي» جديد.

وقويت العلاقات سريعا، وبدأت إيران تدعم نظام الأسد من خلال تقديم النفط بأسعار مخفضة وتقديم حزم مساعدات سنوية تبلغ إجمالي قيمتها 150 مليون دولار. وفي عام 1975، وخلال القمة الإسلامية، كنت حاضرا في اجتماع بين الرئيس الأسد ووزير الخارجية الإيراني عباس علي خلعتبري. وتحدث الأسد عن فكرة «تهديدين أمامنا نحن الاثنين: المتطرفين الدينيين والشيوعيين المضللين». وكانت هذه تجربة مدهشة. وقد شهدت هذا الاختلاف الدرامي بين ما يقوله زعيم سياسي في السر وما يتحدث به على الملأ. وهدأت من نفسي بأن قلت إن الأسد كان «واقعيا» يمارس تصرفا متزنا. وكان عليه أن يحافظ على سيطرة أقليته باسم «المقاومة» من أجل إرضاء الأغلبية فيما يتبنى خطابا راديكاليا من أجل تفويت الفرصة على اليسار. والشيء المهم أنه كان قد توقف عن دعم الإرهابيين المناوئين لإيران، وأخرج المنفيين المعارضين للشاه من سورية.

وفي ظل حكم الأسد أصبحت سورية النظام العسكري العربي الوحيد الذي لم يوقع اتفاقا مع موسكو. كما أوقفت المحادثات التي بدأت في عام 1968 حول حقوق إرساء الأسطول السوفياتي داخل الموانئ السورية. وفي المقابل، دعا العراق الأسطول السوفياتي إلى أم القصر، وهو الميناء الوحيد له على الخليج.

وقد صقل الأسد صفاته المعادية لليسار بوسائل أخرى، من بينها تدمير اليسار داخل سورية. وبحلول 1973 كانت الأحزاب اليسارية السورية قد اختفت، ولم يبق منها إلا الأسماء. وتمكن من كسب البعض منها، وأجبر آخرين على الإذعان له، ودفع الآخرين إلى العيش في المنفى.

وقام بتدمير اليسار في لبنان من خلال تفكيك بعض الكيانات وإسكات كيانات أخرى. وفي بعض الحالات، مثل حالة الشخصية البارزة في اليسار اللبناني كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي، كان الاغتيال هو الوسيلة المستخدمة.

وفي أي وقت كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى مساعدة، كان الأسد موجودا. وكما تحدث هنري كيسنجر في مذكراته، كان تدخل الأسد في لبنان بموافقة من واشنطن بهدف إخراج منظمة التحرير الفلسطينية والقضاء على المجموعات المسلحة الناصرية والمناوئة للولايات المتحدة. وفي عام 1990 كانت سورية في مقدمة تحالف تقوده الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية.

وحصل الأسد على مكافأة بأن أصبح الزعيم العسكري العربي الوحيد الذي يعقد لقاءات قمة مع رؤساء أميركيين منذ نيكسون حتى بيل كلينتون. ووضع جورج دبليو بوش النهاية لهذه العادة برفض طلب الأسد عقد اجتماع.

لا توجد منطقة بلا أساطير سياسية، ولا تعد منطقتنا استثناء من ذلك. ومع اختفاء الأساطير القديمة، تظهر أسطورة جديدة. وتشير الانتفاضة الشعبية الأخيرة في سورية إلى نهاية أساطير انتشرت منذ السبعينات. وربما يعزز ذلك من مقدار أكبر لفهم الماضي ورؤية أوضح للمستقبل.