مقنع

TT

عدت إلى قراءة كتاب جورج أورويل «تعليقات الحرب»؛ وهو مجموعة المقالات التي أرسلها إلى الـ«بي بي سي» خلال الحرب العالمية الثانية عن تطورات القتال بين الحلفاء ودول المحور. وكنت قد كتبت هنا عن الكتاب قبل سنوات عدة. لكن كلما مرت المنطقة بحالة كبرى، كما هو الحال الآن، وأصغيت إلى الناطقين الرسميين، أو المستنطقين شبه الرسميين، تذكرت مدرسة أورويل.

خلال الحرب العالمية، كانت هناك مدرستان: واحدة في ألمانيا، يمثلها جوزيف غوبلز، وزير إعلام هتلر، وأخرى من أبرز أعلامها جورج أورويل. غوبلز كان يستخدم أقذع الشتائم في الحديث عن أعدائه، وأضخم الأوصاف في الحديث عن الفوهرر وانتصارات ألمانيا. كان غوبلز يقول إن جيوش الرايخ الثالث تتقدم مزهوة بانتصاراتها في ستالينغراد، فيقول أورويل إن القوات الروسية هزمت لكنها أحدثت فجوة صغيرة على الجبهة مع الألمان، وكان غوبلز يسمي الحلفاء العدو الغاشم والحقير، وكان أورويل يسمي جيوش المحور الألمان واليابانيين والإيطاليين. وكل 500 كلمة يستخدم كلمة «العدو» مرة واحدة.

كان يخاطب سامعيه على أنهم مجموعة من الأذكياء والعارفين، وخصوصا المخلصين. فهم يعرفون، كما يعرف، ماذا يفعل النازيون. وهو لا يستطيع أن يخدعهم بانتصارات وهمية أو كاذبة، لأنهم شعبه وأهله، ولأنهم يخوضون معه ومع دولتهم حربا واحدة. كل هدفه أن يكون موثوقا ومقنعا. فليس مهما أن يصدقوه اليوم، والأهم أن يصدقه التاريخ بعد 50 عاما لا أن يضحك منه ومن بلده ومن جيوشه. أليس مهينا أن تكتب زوجة عبد الناصر في مذكراتها أنها كانت - مع بناته - تصغي إلى أخبار مصر من الـ«بي بي سي»؟ لا. كانت تبحث عن الحقيقة التي تخشى أن لا تجدها في «صوت العرب». فالمعيب في 5 يونيو (حزيران) لم يكن الوضع العسكري؛ بل بيانات أحمد سعيد عن الطائرات الإسرائيلية المتساقطة. من أصل ستين معركة هزم نابليون في 50 منها على الأقل. وقوات مصر لم تهزمها الحرب؛ بل المفاجأة والخداع. وعندما تذكرت الناس ماذا حدث بعد حين، تذكرت شيئا واحدا، وهو أن «صوت العرب» مالت إلى التهريج الإعلامي في أسوأ اللحظات التاريخية.

أتمنى أن يدرس «تعليقات الحرب» في كليات الإعلام العربية. وأن يطلع عليه السياسيون الذين يهوون التحدث إلى الصحافة، كالسيد سيف الإسلام القذافي الذي لمح إلى أن موسى كوسا يعاني من اختلال. هكذا كان السوفيات يقولون عن سولجنتسين الذي أسهم في تدمير الاتحاد السوفياتي. وهكذا قالت المخابرات الليبية عن إيمان العبيدي، وهي تعلن للصحافيين أن عار كتائب القذافي أفظع مما ألحق بها. حاولوا أن تكونوا مقنعين. جربوا الهدوء. ملّحوا الأقوال ببعض الصدق. اتعظوا من مدرسة غوبلز.