يا أبا غنوة

TT

غادرت لندن ظهر أمس الجمعة إلى جدة، وما أن وصلت إلى جدة إلا ووجدت كماً من الرسائل على هاتفي الجوال تقول: «أحسن الله عزاءك بمحمد صادق دياب»! يا الله، ذهول، وصدمة، ولم أشعر أنني بجدة إلى الآن!

كنت أقول للحبيب العزيز أبي غنوة لو زرت جدة ولم نلتقِ فتأكد أنني لست في عروس البحر الأحمر. محمد صادق دياب كان بالنسبة لي جدة القديمة.. الساحرة.. المتسامحة، مدينة الحالمين، والشعراء، والطامحين، والفنانين، وقبل هذا وذاك بوابة الحرمين. كان محمد صادق دياب جدة بالنسبة لي بتسامحه، ومرونته، كان محمد مداً وجزراً.. كبحر جدة! عرفته طوال تسعة أعوام، وتوثقت العلاقة بالخمسة أعوام الأخيرة، وكانت أكثر اقتراباً على المستوى العائلي فترة وجوده في لندن للعلاج، إما باللقاءات، أو الاتصالات، والأكثر رسائل الجوال، بين شعر، ونثر، وممازحة، ونصائح.. كان يرسل لي على الجوال تعليقاً على بعض مقالاتي، وبلهجة جداوية حلوة: «يا سيدي والله انت مشكلة بس الله يحميك»! لم أعرف عنه النفاق، أو المجاملة الصارخة، لكنها شخصيته، فأبو غنوة لا يعادي، ولا يهادن، ولا يتملق، ولم أسمعه يذم في إنسان طوال التسعة أعوام.

من خلال محمد صادق دياب، الأخ، والصديق العزيز، امتدت لي جسور مع أهل الفن، والشعر، والفكر، في جدة. كانت تجمعنا جلسات خاصة في جدة، وامتدت إلى لندن، خصوصاً مع فنان العرب محمد عبده، كان يجمع بيننا محبة أبي نورة، ولكن أبا غنوة كان يقول أنا محب لمحمد ولست من الجماهير التي تقول له «حلو يا محمد حلو..»! وبالفعل، ففي المجالس الخاصة، كنت أسمعه يناقش فنان العرب، ويقول له ما لا يكتبه عن محمد، وكنت أتعجب كيف أن محمد عبده لم يكن يستمع له وحسب، بل يأخذ كل كلمة على محمل الجد.

أبو غنوة.. هو جدة. محمد صادق دياب الصحافي، المثقف، المؤرخ، والروائي، وكانت آخر رواياته بعنوان مقام حجاز، وكان ينوي إنجازها، لكن عندما داهمه المرض تردد، حمسه زملاء، وأصدقاء له، وكنت منهم، وفي لقاء بلندن عرض عليّ تصميم غلاف الرواية، الذي صممه الشاعر عبد المحسن الحليت، ويومها، وبحضور محمد عبده، وجمعة من الأصدقاء في لندن، تحول النقاش عن المقامات وكان بمبادرة من أبي غنوة حيث وجه السؤال للفنان محمد عبده، فتحولت الجلسة إلى مجلس أدبي، وشهد معرض الرياض للكتاب بالفعل رواية مقام حجاز.

قلت لأبي غنوة، حين كنا نجلس وحدنا في شقته بلندن، والمساحة بيننا كبيرة: «حبيبنا لا تتوقف عن الكتابة، وكن متماسكاً، فكم من البشر أموات وهم أحياء»! فنظر إليّ قائلا بلهجته الجداوية: «ايش نعيتني»؟ وهممت أشرح، فقاطعني ممسكاً بيدي، وقال «شوف هذا المرض الخبيث هو أكبر ما يهيئك لمقابلة ربك، ودعوتي اللهم أخرجنا منها بأحسن»! حاولت أن أشرح له أنني لم أكن أقصد ذلك، فقال «اقلك غيّر الموضوع، لا تسمعك أم البنات وتقلب نكد»! وأخذ يضحك.. هكذا كان أبو غنوة.

اللهم اغفر له وارحمه، وألهمنا وأهله الصبر يا رب!

[email protected]