تصحيح الملفات في الثورة العربية

TT

هناك أربع قضايا مهمة في الحراك العربي الذي يسميه البعض «ثورة» تستحق التوقف عندها ومناقشتها، لا لأنها جديدة - بمعنى الجدة - ولكن لأن كثيرين قد تجاوزوها ضعفا في المعلومات، أو توظيفا سياسيا.

نبدأ الأولى من الأقرب، هي تعريف أو تكييف التدخل الخليجي في البحرين، وجزء من المشهد السياسي اليوم لدى البعض، أن هذا التدخل يتنافى مع العلاقات الدولية أو غير منسجم معها، تبريرا لموقف سياسي، بل وصل الأمر من البعض، تحيزا، إلى أن قال إنه «اجتياح» وشبهه باحتلال صدام حسين للكويت، على كل الفارق بينهما. ولمن لا يعرف أريد أن أسرد قصة من التاريخ الحديث. فقد تدخلت القوة البريطانية في الخليج في عدد من الدول، من أولها البحرين، في عشرينات القرن الماضي، تدخلت السلطة البريطانية من أجل إزاحة حاكم البحرين وقتها الشيخ عيسى بن علي، رحمه الله. وخلفية التدخل، من بين بعض أمور أخرى، كما ترويها الوثائق البريطانية التي اطلع عليها كاتب هذه السطور ونشرت في بعض الدراسات، الخلاف في التوصيف والتكييف، بين القوة البريطانية وبين الحاكم وقتها. فقد كان قد وقع مع السلطة البريطانية اتفاقات لتمثيله في الخارج، إلا أن علاقة الحاكم بأقرانه حكام الخليج استمرت كما هي، بالاتصال والتشاور، فلما تدخل المقيم البريطاني ليعترض على رسالة كتبها الشيخ إلى الملك عبد العزيز، رحمه الله، غضب عيسى بن علي، وقال بالحرف الواحد، الذي نقله المقيم البريطاني في مذكرته لرؤسائه، أنتم تمثلونني في الخارج، في الهند وغيرها من الدول، ولا تمثلونني مع إخواني في الخليج، فهذا شأن داخلي! هذه الرؤية تؤكد الممارسة التي أقرت منذ قرون مضت، واستمرت هي نفسها بالروحية التي يتعامل بها الخليجيون مع بعضهم إلى اليوم، وهي ظاهرة في أشكال عدة، فمن الطبيعي جدا أن يكون هناك «درع الجزيرة» ومن الطبيعي أن يتحرك حسب ما يراه متخذو القرار. فكل هذه الضجة - المضادة تنم أولا عن عدم فهم للعلاقات في هذه المنطقة، وعدم وعي بطبيعة النسيج الاجتماعي والاقتصادي القائم منذ قرون طويلة، فها هو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد يطير بين أبوظبي ومسقط عند ظهور خلاف في وجهات النظر لرأب الصدع دون حاجة لمؤسسات إقليمية أو دولية أو تنطع قانوني. في التاريخ الحديث أمثلة كثيرة قريبة وبعيدة، يعرفها كل من له اطلاع أو اهتمام بتاريخ المنطقة في التعاون والتشاور والتساند.

القضية الثانية هي سلطة وسائل الاتصال الحديثة، ولا أعني فقط سهولة التواصل بين الناس، وكأنهم في «ديوانية واحدة» وسهولة الحشد وجمع الأنصار وربما توزيع مباشر للأخبار، ولكن أيضا بجانب ذلك في إظهار وجهة نظرهم والصدع بما يرونه في بعض المواضيع الساخنة التي تهم الرأي العام، من خلال ما تجريه تلك الوسائط من استطلاع للرأي. «غوغل» مثلا أرادت أن تعرف هل يرغب متابعوها في الخليج بتسميته الخليج العربي أم الفارسي؟ حتى تعتمد التسمية في كل المواد التي تنشرها، وما زال الاستفتاء قائما. إلا أن استفتاءين لفتا نظري؛ الأول هو هل هناك أمل في الإصلاحات في سورية؟ وكانت الإجابات بالأغلبية، إن ذلك لن يكون! أما الأخير الذي اطلعت عليه فيقول، هل دول الخليج سائرة إلى مواجهة أم مقاطعة أم حلول دبلوماسية مع إيران؟ وكانت الإجابة، مواجهة ومقاطعة، التي أخذت أغلبية كبيرة، أي أن الناس تتوقع التصعيد. من يشارك في مثل هذه الاستفتاءات، يمكن توصيفهم بالتالي، إنهم شريحة مهتمة ومتعلمة ولها علاقة وثيقة بالتقنية الحديثة، وأيضا لها وجهة نظر قوية تريد إيصالها للفضاء الإلكتروني، فوق أن تصويتها حر لا رقابة عليه لأنه سري. فمن الممكن أن نقول إذن، مثل هذه الاستطلاعات وجب أخذها بالحسبان لدى متخذي القرار وعدم إهمالها.

القضية الثالثة هي هذا الجدل الدائر في فضائنا العربي من خلال الصحف والكتابات ووسائل الإعلام المختلفة، الذي يسأل هل أميركا وراء كل هذا «الحراك العربي» الذي جعل الجميع يستجيب له إما اقتصاديا من خلال رفع المرتبات أو تخفيف نسبة التسهيلات الائتمانية، أو الاستجابة سياسيا من خلال تقديم إصلاحات إما شكلية أو شبه جذرية، حتى إن رئيس الوزراء العراقي قرر منذ بدأ هذا الحراك أن يستغني عن نصف مرتبه ولا يطلب إعادة انتخابه في المستقبل!! هكذا هي الاستجابات، أما ما يحدث في اليمن وفي ليبيا وفي غيرها فإنه ما زال في وضع التشكل! أين أميركا من كل ذلك. يقول البعض إنها مؤامرة خلقتها أميركا، ويقول آخر إن ما حدث مفاجأة للأميركان! رأيي أن أميركا، نتيجة التشكل النفسي لدى الجمهور العربي لفترة طويلة، قد استطاعت تسيير الأحداث في بعض ما حدث عن بعد عن طريق الإيحاء لا أكثر. عندما تقول مثلا إن على السيد حسني مبارك أن يسلم السلطة، هو تصريح، ولكن يستقبله المعتصمون على أنه موقف واجب التحقيق. أخيرا كُتب في وسائل الإعلام الأميركية أنه لولا الموقف الأميركي لما حصل التغيير في مصر، وفي اليمن الإشارات أيضا واضحة. أي ليس من الضروري أن تقوم أميركا بنشاط مباشر على الأرض، يكفي - في بعض الحالات - من الإشارات البعيدة، يلتقطها الجمهور على أنها سماح له بالاستمرار في الطريق!!

من الضروري أن نفهم أنفسنا والبيئة السياسية المحيطة بنا قبل أن نبحث عن منشط خارجي، إلا أن الثقافة السياسية العربية لفترة طويلة بنيت، مع الأسف، على هذا التوقع، وأتساءل دائما ما هو رأي الآخرين؟ حتى لو صرفت الجهد كله كمواطن لشرح ما يدور بأن لها أسبابا موضوعية لا خارجية، يهز كثيرون رؤوسهم ويقولون لك: وأين أميركا؟ إنها في العقول قبل أن تكون على الأرض!

القضية الرابعة هي الخسارة الاقتصادية التي سببها هذا الحراك السياسي، هناك مثلث نراه جميعا هو ارتفاع في أثمان الغذاء وارتفاع في أثمان النفط وصرف مالي ضخم، في الوقت الذي يحتاج الاقتصاد العربي فيه كي ينهض، إلى شد الأحزمة، أما الأنظمة المضطربة ترخيها.

في اليمن يبدو أن البنك المركزي - بسبب الوعود المالية ورفع المرتبات وتزايد البطالة - بدأ يطبع أوراقا مالية ليس لها غطاء، ذلك يسبب مباشرة التضخم المنفلت من عقاله. في مصر تعطلت المصالح وتراجع الاستثمار وزادت البطالة، مما سبب أنواعا جديدة من الجرائم سببها الرئيسي فقدان الدخل الذي انقطع، وغياب السلطة النسبية. في تونس بدأت أرقام البطالة ترتفع فأصبح هناك بدلا من مئات البوعزيزي الآلاف من أمثاله، رحمه الله.. وهكذا. فالشق الاقتصادي لم يحسب حتى الآن جراء الثورات، والتكلفة باهظة بكل المقاييس، ليس فقط في فقدان الدخل المباشر، ولكن أيضا في تضاؤل فرص الاستثمار وهروب الأموال الحثيث إلى الخارج وتردد المستثمرين. يبدو أنه قبل الإصلاح المرجو - إن حصل - سينتشر الخراب أولا!!

آخر الكلام:

أسمع الـ«بي بي سي» العربية بشكل منتظم، إلا أن مهنيتها أصابها الضعف، تطلب من المستمعين رأيهم في بعض القضايا وتذيع آراءهم بعد ذلك. من فترة طويلة أنا أستمع إلى نفس الأشخاص دائما وهم قلة، هل هذا رأي عام أم رأي الخواص؟ هل من إجابة من الـ«بي بي سي»؟