وداعا محمد صادق دياب

TT

المدن كالأشخاص، لها شخصيات وملامح وهوية واضحة. أعتز بالانتماء لمدينة جدة، فأنا من أسرة سكنت أحد أحيائها الأربعة الرئيسية، حارة البحر وحارة الشام وحارة اليمن وحارة المظلوم. أحياء ومعالم وتضاريس معروفة في مدينة كانت تغلق عليها أبوابها، باب مكة وباب شريف وباب جديد. كانت هذه المدينة غارقة في التاريخ الأسطوري القديم بشهادات المؤرخين والرحالة، ونُسبت تسمية جدة إلى أم البشر حواء التي يقال إنها مدفونة في أقدم مقابرها، وإلى تاريخ إسلامي مهم أطلقه الخليفة الراشد عثمان بن عفان.. لتكون جدة بوابة المسلمين لمكة والمدينة. إنه تاريخ عريق، وشهادة حق في عروس البحر الأحمر وأهلها الذين انعكس على طباعهم قبول الآخر والانفتاح على العالم، مولدين ثقافة موجهة تطلق الإبداع والنجاح.

ولكل مدينة حكواتي محب لها وعاشق لنسماتها.. وكما كان لدمشق محمد الماغوط، وكما كان للقاهرة نجيب محفوظ، كان لجدة عاشقها المحب محمد صادق دياب، ذلك الرجل الجميل الذي رحل عن دنيانا بالأمس مخلفا سيرة عطرة مليئة بالحب والعشق للناس ولجدة. كان له أسلوب ساحر في رسم الكلمات، يأخذك بين السطور للزمان الجميل، ويزرع في الحروف أملا ورضا. واجه المرض اللعين بصبر وإيمان وأمل. قاوم الآلام، وأصر على مواصلة التواصل مع محبيه عبر حروفه المتألقة. عاش رواد معرض الرياض الأخير للكتاب فرحة صدور روايته المهمة الرائعة «مقام حجاز»، التي كتب فيها فصولا من تاريخ معشوقته جدة ضمن سياق تاريخي رائع مليء بالإثارة والأدب بشكل مميز يليق تماما بقامة المحب محمد صادق دياب. كان بحرا في عشقه للفن، احتفظ بعلاقة أسطورية جميلة مع الراحل طلال مداح، وعرف قيمة فوزي محسون وغازي علي وابتسام لطفي وتوحة، وهم جميعا قامات فنية عظيمة، وكانت لديه مكانة خاصة لثريا قابل الشاعرة السعودية الكبيرة سليلة الأسرة الجداوية المعروفة والتي يسمى على اسم أسرتها أشهر شوارع جدة القديمة.

أحب دياب القاهرة وبيروت حبا جما، كان متيما بمكتباتهما ومقاهيهما وروادهما. اهتم جدا بتاريخ جدة وعاداتها وتقاليدها ورموز مجتمعها وأمثالها وثقافتها، وكتب الكثير في هذه المواضيع، وأصدر أكثر من كتاب في هذا المجال. صداقاته كثيرة، ومحبوه كثر. كان وفيا جدا وحريصا على مواصلة زملاء الدراسة ومعارف العمل وأصدقاء الدنيا بشكل آسر وأخاذ. كان مولعا بعبق جدة التاريخية القديمة، وبرواشين بيوتها وأعمدتها ومصابيحها وأرصفتها و«مقاعدها» (وهي المجالس الشبيهة بالديوانيات المعروفة)، وكان مغرما بتراث وثقافة مقاهي جدة القديمة، ويتغزل في أسلوب تقديم أنواع الشاي فيها، والجراك اليمني التقليدي، وأنواع الناس الذين يأتون إليها، والأحاديث التي يتم التطرق إليها. كان ينظر إلى التنوع الخدمي والتجاري الموجود في جدة على أنه نتاج المجتمع المفتوح الذي كانت المدينة عليه وأصبح جزءا من هويتها وتغنى به الشعراء وكتب عنه المؤلفون بغزارة، حتى كان الانتماء لجدة - حتى من غير سكانها - مسألة طبيعية جدا انعكست على تركيبة الناس في كل المجالات بشكل حضاري لافت وأخاذ.

محمد صادق دياب عاشق ومحب لمدينته ومرآة لها، نفسه الجميلة وروحه الصافية أجبرتا كل من عرفه على محبته واحترامه والتواصل معه ولو طال الغياب. كل من عرفه سيفتقده ويشتاق إليه، وكل من سمع عنه سيحبه. نال الكثير من الدعاء المستحق في فترة مرضه العصيبة والصعبة، كتب عنه من أحبه في مقالات أو في رسائل أو في أدعية، وكل ذلك ما كان إلا دلالة على مكانة للرجل أكرمها الحق سبحانه وتعالى في قلوب الناس ليتذكروه بالخير.

رحم الله الرجل الجميل محمد صادق دياب الذي تبكيه جدة ويبكيه السعوديون اليوم كقامة أدبية وأخلاقية نادرة نالت المحبة وحصلت على التقدير واستحقت المحبة. اللهم ارحمه، وأسكنه جناتك، وألهم أهله الصبر والسلوان.

[email protected]