أمانة الجامعة العربية والعاصفة الترابية القادمة

TT

انتهت مدة خدمة السيد عمرو موسى كأمين عام لجامعة الدول العربية، وحتى اللحظة لم ترشح مصر مندوبا جديدا، فقط قطر رشحت السيد عبد الرحمن العطية، وفي المساء قال مقدم البرامج في إحدى الفضائيات وقد استولى عليه غضب شديد: كيف تفعل قطر ذلك..؟ مقر الجامعة هو مصر وأمينها لا بد أن يكون مصريا.. هذا هو القانون غير المكتوب للجامعة العربية.

كانت المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها أن هناك قوانين غير مكتوبة، يعني تماثل الشيكات غير الموقعة من أحد، وفي فضائية أخرى، أحد المتداخلين كان يعاني من صدمة عصبية حادة جعلت الكلمات تقتتل في فمه، حكاية أن يغادر هذا المنصب مصر أصابته بانهيار عصبي، كيف تعامل مصر على هذا النحو، من المستحيل أن نسكت على ذلك، الواقع أن مصر البلد والشعب، ليست هي أمين عام الجامعة العربية، هو مجرد مواطن مصري اختاره ممثلو دول الجامعة ومن حقهم بداهة أن يختاروا شخصا آخر ينتمي لبلد عربي آخر طبقا لقواعد الديمقراطية التي نحاول جاهدين طول الوقت إقناع الآخرين بأننا نعشقها.

حاولت أن أنسى ما سمعته لكي أتمكن من النوم، حاولت الاستسلام لمشاهد لطيفة أستدعيها من الذاكرة، جاءت صورة القرية المصرية القديمة، كان هناك جهاز تليفون واحد يوجد في دار العمدة، العمد في مصر لا يتم اختيارهم بالاقتراع المباشر، بل بالتعيين، تثق الدولة في أسرة معينة فتقوم بتعيين عميدها عمدة للقرية، إلى أن تنشأ ظروف جديدة تحتم انتقال العمودية من أسرة إلى أخرى ومن دار إلى دار، عندها يحدث الزلزال وتحل الكارثة، وهو انتقال جهاز التليفون من دار إلى دار أخرى في نفس القرية، يا له من مشهد تعس، كل نساء أسرة العمدة القديم ترتفع صرخاتهن إلى عنان السماء، لقد تحملن في صمت وكبرياء خبر خروج كبيرهن من العمودية ولكنهن انهرن فجأة وهن يرون بأم أعينهن جهاز التليفون وهو يرحل بعيدا عنهن إلى الأبد.

ماذا يعني جهاز التليفون لهؤلاء الناس البسطاء، إنه القدرة على الاتصال وخاصة بعلية القوم، القدرة على الاتصال بالآخرين كانت مصدرا للقوة طوال التاريخ، وإلى عهد قريب كنا نستخدم تعبيرا كان شائعا وهو أن فلانا شخص «متصل»، أي إنه على صلة بكبار رجال السلطة، ثم تكفلت التكنولوجيا بإمداد البشر بالمزيد من القدرة على الاتصال إلى أن أصبح من السهل أن تتصل بمليون شخص وتتواعدوا على اللقاء في ميدان ما لإزالة نظام ما. وجهاز التليفون يوجد في غرفة صغيرة هي أيضا غرفة السلاحليك، أي المكان الذي يضع فيه خفراء القرية والزمام بنادقهم، وهي أيضا الغرفة التي يحتجز فيها الشخص المطلوب احتجازه إلى أن يرسل مركز الشرطة قوة تقتاده إلى المركز. وإذا جاز لنا استخدام الأفلام المصرية القديمة بوصفها مرجعية تاريخية، فلا بد أن تستنتج أن جهاز التليفون كان متصلا مباشرة بمركز الشرطة، أي بالحكومة وهي أقوى الكائنات على الأرض بالنسبة للمواطن في مصر، على الأقل في تلك الأيام البعيدة (أرجو أن تتذكر تلك الصيحة في المسرحيات والأفلام القديمة: «ألو يا مركز.. ألو يا مديرية.. رد علي من فضلك») بالتأكيد كل هذه المعاني كانت تتفاعل داخل لا وعي النسوة النائحات الصارخات لتجسد أو تفجر نوبة حزن وضياع لا حد لهما. إنني أهدي المشهد السابق لكل زملائي العاملين في الميديا المصرية، لكي يتعاملوا بشكل أكثر فهما لموضوع ترشيح قطر للسيد عبد الرحمن العطية.

من الخطأ وربما من الخطر أيضا التعامل مع عصر بأدوات عصر سابق، القرية الآن فيها أجهزة تليفونات بعدد ما فيها من بشر، وأن تكون على صلة بمسؤول كبير لم يعد مصدرا للقوة بل للخطر، على مدى آلاف السنين كان المصريون يحرصون على أن تكون لهم صلة بكبار المسؤولين، فقد كان ذلك هو السبيل الوحيد للحصول على قطعة أرض هنا وصرة فلوس هناك، أما الآن فأي صلة لك بمسؤول (سابق بالطبع) تعني زيادة احتمالات دخولك السجن، لم يعد العصر هو عصر التكويش على المناصب الحاكمة في المنظمات العربية، لم تعد قوة الدولة تقاس بقدرتها على احتلال المراكز القيادية في المنظمات التي تعج بها الساحة العربية، قوة الدولة تقاس الآن بما تحققه لمواطنيها على أرضها من فرص عمل وفرص عدالة واستقرار.. هذه هي الحرية كما أراها، العمل الدائم في حماية القانون على صنع مواطن فرد متميز في مجال عمله يصلح علما لبلده وعنوانا لمواطنيه.

فصل الربيع في مصر هو أسوأ الفصول، هو فصل التقلبات الجوية الحادة والرياح المحملة بالغبار وهو ما يثير في النفس شدة الإحساس بالضيق والاختناق، هذا المناخ يدفع الإعلام عادة للبحث عن معركة وهمية يفرغ فيها شحنة إحساسه بالضيق، هذا هو ما أحذر منه.

الثقافة الغالبة في المنطقة الآن ولا أقول السائدة، إذا لم تكن هي ثقافة الحرية، فهي على الأقل ثقافة العداء للديكتاتورية، والديكتاتورية في أبسط صورة لها هي أن تعطي لنفسك الحق في شيء تنكره على الآخرين. كثيرون منا يعتقدون أن الاستبداد له شكل وحيد، هو حاكم مستبد ومحكومون يعانون من استبداده، الواقع أن الاستبداد هو أسلوب تفكير ونمط حياة تأتي حتما بحاكم مستبد، وفي ذلك يقول المثل الشعبي «قال: يا فرعون.. إيه اللي فرعنك؟ فقال: ما لقيتش حد يردني». الأفكار المستبدة إذن ليست ذاتية الصنع، بل هي من صنع الناس عندما يعجزون عن التفكير الصحيح ويستسلمون للشعارات والأوهام، الاستبداد يحدث حتما عندما تجد أنه من اللذيذ أن تستبد بالآخرين فاتحا الباب بذلك لمستبد قادم يستبد بك.

يجب ألا نعطي لأنفسنا ملامح لا يراها أحد غيرنا، مثل موضوع اليونسكو على سبيل المثال، ليس ما نراه دائما هو الصحيح، وعلينا أن نعرف أن العظمة التاريخية تنسب فقط للعظماء الذين صنعوها فلا داعي للتباهي بها طول الوقت، إن أسوأ فكرة في الدنيا هي أن تزهو بالماضي بينما الآخرون يفخرون بإنجازاتهم في حاضرهم.

أنا أقترح ألا تقوم مصر بترشيح أحد لمنصب أمين الجامعة العربية، نظرا للظرف التاريخي الذي نمر به هذه الأيام، صورتنا الآن ليست جاذبة، كل أسماء النجوم في الوسط السياسي المصري في المرحلة السابقة إما أنها دخلت السجن بالأمس أو ستدخله اليوم أو غدا، هل تعتقد أنها فكرة سديدة أن نقول للمجتمع العربي: نعم.. كل هذه الأسماء فاسدة، غير أننا انتقينا ثلاثة أسماء تصادف أنها كانت عسيرة على الفساد والإفساد.. اختاروا واحدا منها.