سورية.. أمام الخيارات الصعبة

TT

«على من يحرص على حماية حريته أن يحمي حتى أعداءه من القمع.. فإن لم يفعل سيؤسس لسابقة يدفع ثمنها لاحقا»

(توماس باين)

يظهر أن تأخر الذهن السياسي العربي في استيعاب استراتيجية طهران الاختراقية، أعطى إشارات خاطئة لجهات محلية مغامرة، فتشجعت على رفع سقف مطالبها وعرض عضلاتها.

ومن ناحية ثانية، يظهر أن التردد الذي شاب تعامل المجتمع الدولي مع قمع العقيد معمر القذافي انتفاضة المدنيين الليبيين - وهو ما يختلف تماما عن أسلوب «الصدمة والرعب» Shock and Awe، الذي استخدم في غزو العراق عام 2003 - شجع بعض القيادات العربية على اعتماد «الطريقة القذافية» الدموية في التحاور مع شعبها.

هنا نحن أمام حالة مفصلية في التاريخ العربي الحديث.

من دون مبالغة، نحن الآن على مفترق طرق. وقد يكون مخاضا طويلا مؤلما، وقد يحمل رهانات مفرطة في التفاؤل... ربما لا تقوم على واقع، لكن الشيء المرجح حتى الآن هو أننا دخلنا مرحلة مختلفة كليا عما عهدناه في الماضي من شعوبنا وقادتنا ومؤسساتنا السياسية وثقافاتنا الاجتماعية.

الرئيس علي عبد الله صالح، مثلا، يبرر إصراره على البقاء في السلطة بأنه إذا كان لمعارضيه القدرة على تنظيم المظاهرات الحاشدة، فهو أيضا قادر على حشد مظاهرات مضادة. وفي هذا المسلك التقسيمي للوطن سوء فهم كارثي لدور الحكم، لا سيما الحكم الذي يتذرع صباح مساء بـ«شرعيته» الانتخابية الديمقراطية.

في الدول الديمقراطية حقا، يصبح الرئيس (في النظام الرئاسي) أو رئيس الوزراء (في النظام الوزاري التنفيذي) رئيسا لجميع المواطنين، بصرف النظر عن هويته الحزبية. وبالتالي، عندما تصل الأمور إلى التحدي المفتوح لسلطته، أو إلى حد إعلان العصيان المدني... فإنه يفقد «شرعيته» المعنوية أو الأخلاقية في الحكم، لأنه ما عاد حكما بل بات طرفا في نزاع.

هنا يقود الرئيس صالح بقوة السلاح فريقا من الناس ضد فريق آخر... أسهم في دفع ثمن هذا السلاح من ضرائبه ورزق أولاده.

في حالات كحالتي اليمن أو ليبيا، تجاوز البلدان موضوع الأكثرية والأقلية، لأن الانقسام صار فئويا، وتحول سلاح الدولة... أيضا، إلى سلاح لفئة ضد أخرى. بل في حالة ليبيا، نجد أننا نعيش «السيناريو» الفظيع الذي سعت إليه، وحصلت عليه، بعض الدول الكبرى المقامرة بمصير ليبيا. فهي مرتاحة لتصوير ما يحدث من سفك للدماء على أنه «حرب أهلية»، مع أنه في الأساس - أي قبل انشقاق عناصر من القوات المسلحة والتحاقها بالثوار - مجرد قمع دموي تمارسه طغمة عائلية وعشائرية مدعومة بمرتزقة أجانب ضد شعب أعزل.

كان أمام سورية - نظريا، على الأقل - أن تختار ما بين التجربتين التونسية والمصرية غير المكتملتين فصولا، أو السير على خطى العقيد. وبديهي، اليوم، أن القيادة السورية اختارت أسلوب العقيد، بعدما ثبت لها أنه أكثر نجاعة وفعالية. ولعله أيضا، أقل إزعاجا للاعبين الإقليميين والعالميين الذين يهمها كسب رضاهم.

لقد تعاملت دمشق مع بدايات الانتفاضة السورية بأسلوبها المعتاد. فكان هناك «المندسون» و«الإعلام المتآمر». ثم تطور الأسلوب إلى استخدام «الفزاعة الطائفية» وترويجها بإلحاح، وهذا مع أن المنتفضين، في كل أنحاء سورية تقريبا، حرصوا على رفع الشعارات التوافقية والتعايشية، دينيا ومذهبيا وعرقيا، من القامشلي إلى اللاذقية، ووصولا إلى درعا.

وبالتالي، كان غريبا، لو كانت في الأمر حقا مؤامرة فئوية، أن يتجاوب معها الرئيس بشار الأسد... فيوافق على إلغاء حالة الطوارئ (!). وكان أغرب، فتح قنوات واتخاذ قرارات لم تتخذ منذ قرابة نصف القرن... ويجوز أن يقرأ الخبثاء منها محاولة للعب على تناقضات الجماهير المنتفضة، تمهيدا لشق صفوفها، مع العلم بأن هذه الجماهير، طبعا، متعددة الأطياف.

ما يحدث الآن في سورية، في ظل الكلام الرسمي التهديدي ردا على مجزرة يوم «جمعة الصمود» الماضي، التي سقط فيها عشرات القتلى ومئات الجرحى، ينم عن أن القيادة السورية حسمت خيارها بالمواجهة. وهذا، بعدما اكتشفت كسر الإنسان السوري «حاجز الخوف»... ورفضه الاقتناع بأن من طبيعة النظام تغيير نفسه.

لكن هذه القيادة تدرك جيدا أن للمواجهة ثمنا باهظا، وعليها الحذر من أن لا تفقد كل أوراق اللعبة دفعة واحدة. فهي ناورت لفترة طويلة بالورقة الإيرانية، وتعايشت لفترة أطول مع منطق الحدود الساكنة مع إسرائيل، وكانت خلال السنوات القليلة الماضية متحمسة جدا للانفتاح على واشنطن، بينما كانت تخون كل معارضيها في الداخل والخارج وتتهمهم بـ«العمالة لأميركا».

وهنا، قد يكون مفيدا جدا تلمس الأسباب الكامنة وراء التأخر في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، بعدما أنجزت كل من طهران ودمشق انقلابهما المسلح الزاحف على الساحة اللبنانية منذ 2006.

فثمة أسئلة جدية للغاية تطرح نفسها، ومعظمها يبدو على تماس مع وضع سورية الداخلي، ومستقبل حكمها، وسط الجو الإقليمي المتوتر الذي أنتجته «الهجمة» الإيرانية على المنطقة العربية، منها: هل هناك بالفعل «تفاوت» في الأولويات بين دمشق وطهران، يعكسه تحمس طهران للحسم والمواجهة في لبنان، مقابل تلكوء دمشق في التصعيد ضد الغالبية السنية الممثلة بـ«تيار المستقبل»؟

وما سر مواصلة الصحيفة اليومية اللبنانية الأكثر تعبيرا عن مواقف حزب الله وارتباطاته الأمنية نشر وثائق «ويكيليكس»، بما تحتويه من مواقف مناوئة صراحة لحزب الله، منقولة على ألسنة أعضاء في كتلة التنمية والتحرير البرلمانية، التابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، زعيم حركة أمل؟

إلى أي مدى تستطيع دمشق، أو تريد، المحافظة على هدوء الساحة اللبنانية إزاء ارتفاع حرارة الاستقطاب والخطاب الصدامي بين حزب الله ومناوئيه؟