ثورة نبيل العربي تكتمل!

TT

في هذا المكان، كنت في الأسبوع الماضي، قد وصفت الدكتور نبيل العربي، وزير خارجية مصر، بأنه قد قام بنصف ثورة، ويبدو أنني كنت أشير إلى الحقيقة، أو إلى شيء منها على الأقل، لأننا في نهاية الأسبوع نفسه، قد وجدنا أنفسنا على موعد مع النصف الآخر من ثورة الوزير، وإذا بثورته، بالتالي، تكتمل!

والحكاية من أولها، أن الدكتور نبيل كان قد قال صباح الثلاثاء قبل الماضي، إن إيران ليست عدوا لمصر، وإنها دولة صديقة لنا في القاهرة، وإن القاهرة تعلن عن فتح صفحة جديدة معهم في إيران، وإننا في انتظار ردهم، وإننا لا نمانع حتى في إجراء أي اتصال مع حزب الله في لبنان، بشرط ألا يكون ذلك، طبعا، مؤديا إلى تدخل من أي نوع في شأن لبنان الداخلي.

وقتها وصفت الصحف القاهرية، وخصوصا صحيفة «الأخبار» تصريحات الوزير «العربي» بأنها، تمثل ثورة في سياسة مصر الخارجية.

وحين كتبت في هذا المكان، صباح الاثنين الماضي، تحت عنوان: «نبيل العربي يقوم بنصف ثورة» كان القصد أن ما صدر عن الوزير، ربما لأول مرة منذ توليه مهام منصبه، قبل شهر تقريبا، إنما يمثل نصف ثورة في حقيقة الأمر، لا لشيء، إلا لأن الثورة سوف تكتمل حين نطمئن إلى أنها كثورة في سياسة مصر الخارجية، لن تؤدي إلى إثارة مخاوف في دول الخليج العربي، لها ما يبررها، وحين نطمئن أيضا، إلى أن طهران لن تستقبل تصريحات الدكتور نبيل، قفزا فوق مصالح مصرية راسخة، مع دول الخليج، وفي منطقة الخليج إجمالا!

وقد كان رأيي، ولا يزال، أن إيران كانت هي التي بادرت بقطع العلاقات مع القاهرة، عام 1979، بعد قيام الثورة الإيرانية هناك، وكان الأرجح بالتالي، أن تكون إيران هي التي عليها أن تبادر بإبداء الرغبة في إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه، قبل قطعها، لا أن تبادر القاهرة بذلك. لأنها لم تكن هي التي بدأت، ولا هي التي قطعت!

وبطبيعة الحال، فقد كانت هناك أسباب كثيرة تقال عن أسباب قطع العلاقات، في ذلك الوقت، وكان أهم سببين هما توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل في مارس (آذار) عام 1979، ثم قرار الرئيس السادات باستضافة شاه إيران في القاهرة، بعد خلعه في ذلك العام، وعدم ترحيب جميع دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، باستضافته على أرضها.

ولكن.. أيا كان سبب قطع العلاقات، فإن المشكلة، الآن، ليست في سبب قطعها، وإنما في الطريقة التي يمكن بها أن تعود، دون أن تكون العودة من جانبنا نحن على الأقل، على حساب ثوابت لا يجوز أن تفوت علينا، ونحن نعيد النظر في مسار سياستنا الخارجية، بعد ثورة 25 يناير.

ولذلك، فإن أصداء تصريحات الدكتور نبيل العربي، وأصداء ثورته، لم تكن جيدة في كثير من دول الخليج، التي كانت، وربما لا تزال، متخوفة مما قاله الرجل، ومن تداعيات ما قال، ثم من رسائل خاطئة، يمكن أن تصل إلى الخليجيين، من بين ثنايا ما قال.

وحين عاد الدكتور نبيل، إلى الموضوع ذاته، هذا الأسبوع، مرة أخري، كان ذلك فيما بدا، قد جرى عن قصد، وكان الهدف كما يبدو من شكل كلامه الجديد، ومن مضمونه، هو إزالة بعض اللبس الذي يمكن أن يكون قد اكتنف نصف ثورته قبل أسبوع!

لقد عاد وزير خارجية مصر، هذا الأسبوع، ليقول بصراحة، وبشكل مباشر، بأن أمن، واستقرار، وعروبة دول الخليج، خط أحمر، لن تسمح القاهرة بالاقتراب منه.. ثم قال أيضا ما معناه، إن منطقة الخليج تظل عمقا استراتيجيا أساسيا لأمن مصر القومي.

وقد قال الوزير كلاما آخر كثيرا، ولكن هذا هو أهم ما قيل، على لسانه، فيما يخص موضوعنا، وهذا أيضا، هو نصف الثورة الآخر، الذي لم يكن قد قام به، الأسبوع الماضي، ثم عاد إليه سريعا بإحساس وطني وعربي صادق، لم يكن من المتوقع أن يفوته في زحمة انشغاله وتصريحاته.

ربما يكون الدكتور نبيل قد انتبه إلى أن توقيت القيام بنصف ثورته الأولي، كان قد جاء في وقت غير مناسب، ولا نريد أن نقول إنه قد جاء في وقت خطأ، لأننا جميعا نعرف ونتابع ما يجري هذه الأيام، بين بعض دول الخليج، وخصوصا البحرين والكويت من جانب، وإيران، من جانب آخر.

لم يكن مستساغا - على سبيل المثال - أن تعلن الكويت عن ضبط مجموعة إيرانية تتجسس عليها، ثم تعلن القاهرة، في التوقيت ذاته، أن طهران دولة صديقة، وليست عدوا، وأننا ننتظر فتح صفحة جديدة معها، وبسرعة!

طبعا.. إيران دولة صديقة، وليست عدوا، ويجب أن تعود علاقتنا معها بسرعة إلى ما كانت عليه قبل قطعها عام 1979، ولكن ذلك كله يظل مرهونا باحترامها لسيادة دول الخليج، وأمن دول الخليج، ثم - وهذا هو الأهم - بعروبة دول الخليج.

فإذا جاءت إيران، هذه الأيام، لتتحرش بالبحرين، إذا صح التعبير، وإذا جاءت لتعترض علنا، على إرسال دول مجلس التعاون الخليجي، قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين، لحماية حدود البحرين، كدولة، فإن ذلك يكون معناه على الفور، أننا في القاهرة، يجب أن نتأنى على الأقل، في الكلام عن صداقة عائدة مع إيران، أو عن فتح صفحة جديدة معها.. نقول إننا يتعين علينا أن نتأنى ونتمهل، ونراجع أنفسنا بهدوء، ولا نقول إننا يجب أن ننحي الملف جانبا بالكامل.. فهناك فرق بالتأكيد، بين أن تعود العلاقة مع إيران - ولا بد أن تعود - على أسس موضوعية واضحة، تراعي مقتضيات أمننا القومي بمعناه العام، والشامل، وبين أن تعود العلاقة معها، على حساب علاقات مع دول ست، نعرف عن يقين، مدى حساسية الوضع بينها، هذه الأيام، وبين الدولة الإيرانية.

لقد كانت إيران، ولا تزال، تتصرف عكس ما تقول، وكانت ولا تزال، تتصرف في كل مرة، بمنطق عقلية «البازار» التجارية، التي تتميز بها، وهي عقلية تعرف جيدا كيف تساوم، وكيف ترفع من سقف مطالبها فوق ما تريد أصلا بكثير، لتصل في النهاية، إلى ما كانت تريده منذ البداية، بسهولة، وهذا بالضبط ما تمارسه، ليس مع دول الخليج فقط، ولا حتى مع دول المنطقة كلها، وإنما مع الغرب نفسه، حول الملف النووي، ولا بد أن نعترف لها هنا، بمستوى مرتفع من البراعة، تدير به هذا الملف على وجه الخصوص.. أما ما عداه من الملفات، وخصوصا في الخليج، فهي كلما قطعت خطوة، عادت إلى الوراء في علاقتها بدول الخليج، خطوات!

لهذا كله، يأتي كلام الدكتور نبيل العربي، هذا الأسبوع، ليشكل مع كلامه الأسبوع الماضي، دائرة مكتملة، ويأتي أيضا ليجعل الثورة في سياسة مصر الخارجية، إذا جاز أن توصف بأنها ثورة، عملية مكتملة، لها أول، ولها آخر، وفيها من الوضوح أكثر بكثير مما فيها من الغموض والالتباس.

ثورة الدكتور نبيل العربي اكتملت هذا الأسبوع، لأنه أكمل جملة كان قد بدأها الأسبوع الماضي، ولأنه قال ما معناه، إن القاهرة إذا كانت تتطلع نحو إيران، بإحدى عينيها، فإن العين الأخرى تتجه نحو منطقة الخليج، ولا تتحول عنها، لتحرص طول الوقت، ليس فقط على أمنها، واستقرارها، وإنما على عروبتها التي يبدو أنها مسألة تشغل عقلية البازار على الشاطئ الشرقي من الخليج، ولهذا السبب، فإن عروبة القاهرة تتهدد، إذا واجهت عروبة المنامة - مثلا - أي خطر من أي نوع، وكذلك الحال بديهيا مع سائر العواصم الخمس على امتداد الشاطئ الغربي هناك.