السعودية وحتمية الاصلاح الاقتصادي

TT

لقد برهن السعوديون على ولائهم الكامل للوطن، فتحول «يوم الغضب» إلى «يوم للوحدة الوطنية». لكن أحد العوامل التي أغفلها البعض، هو حقيقة أن السعوديين يريدون أن يقوم الملك عبد الله بالتغييرات والإصلاحات الضرورية. كما أن المسؤولين السعوديين يدركون أن غالبية شعبهم لا تريد جر البلاد إلى عنف مماثل للعنف الدائر في ليبيا أو اليمن، ولا إلى عدم اليقين السائد في مصر وتونس. وقد أظهرت القيادة السعودية أنها تمتلك الإرادة السياسية لإنجاز الإصلاحات الاقتصادية اللازمة. وخير دليل على ذلك هو ضمان التحسن الثابت في مستوى رفاهية المجتمع السعودي، بفضل المكرمة الأخيرة للملك عبد الله. إذ تشتمل هذه المكرمة على: منح معونات بطالة للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وأموال إضافية لدعم مؤسسات الإقراض السكني، والمزيد من المساعدات الاجتماعية، وشطب ديون المحتاجين، ورفع رواتب العاملين في قطاع الخدمات المدنية. وتُقدر القيمة الكلية لهذه المكرمة السخية بـ485 مليار ريال.

ولطالما بادر آل سعود إلى التغيير والإصلاح في اللحظات الحرجة من تاريخ المملكة. فقبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بدا من السهل للغاية على بعض المراقبين أن يتحدثوا عن انهيار وشيك للمملكة لأن عائدات النفط المتواضعة أدت، حينذاك، إلى عجز ثابت في ميزانياتها العامة. لكن المملكة تجاوزت هذه المحنة منذ عام 2003، إثر الارتفاعات المتتالية في أسعار النفط، كما تمكنت من الادخار والاستثمار بسخاء في بناء رصيدها البشري.

وخلال موجة الاعتداءات الإرهابية الداخلية التي امتدت بين عامي 2003 و2005، تحدث الكثير من المراقبين أيضا عن قرب انتهاء حكم آل سعود؛ فبرهنوا على ذلك بمدى سهولة إغفال مرونة المملكة وقدرتها على إدراك وتنفيذ التغييرات الحتمية. واليوم، يبدو من السهل أيضا أن يتنبأ الكثير من المراقبين بحدوث اضطرابات متزايدة في المملكة، لأن جارتيها اليمن والبحرين تشهدان اضطرابات سياسية حادة. وينطبق هذا الاستسهال المفرط أيضا على حقبة ما بعد احتلال العراق في عام 2003. ففي تلك الحقبة، تنبأ معظم المثقفين بحدوث اضطرابات سياسية شديدة في المملكة بسبب القوات الأجنبية. لكن المملكة امتصت جميع الصدمات التي تلقتها، حينذاك، وأزالت تهديدات الإرهاب الداخلي ببراعة فائقة، لأنها تمتاز بالمرونة والقدرة على التغيير. إذن في جميع اللحظات الحرجة من تاريخ المملكة، دفعت التحديات الداخلية والخارجية الصعبة صناع السياسة وآل سعود إلى التغيير الحتمي نحو الأفضل.

وفي المرحلة الراهنة، تواجه المملكة تحديات اقتصادية كثيرة ولكنها قابلة للإدارة. إذ تمثل شريحة الشباب السعودي أفضلية للبلاد، بالإضافة إلى كونها تحديا حقيقيا، لأنها تحتاج إلى فرص عمل، الأمر الذي يتطلب اكتساب المهارات اللازمة. لكن التاريخ الحديث للمملكة يؤكد على أن التغيير الاقتصادي الحتمي مقبل؛ فهناك أكثر من مائة ألف شاب سعودي يتعلمون في الخارج بفضل البرنامج الرسمي لمنح التعليم. ويمثل هؤلاء الشباب محركا مهما للتغيير. كما أن الدينامية الحالية لسوق العمل السعودية تشير إلى إصلاح حتمي وشيك، إذ يعمل في القطاع الخاص المحلي سعودي واحد مقابل كل تسعة وافدين. ويُعد إصلاح هذه السوق ضرورة ملحة؛ لأن المزيد من السعوديين سيبحثون عن فرص عمل خلال العقد المقبل. كما أن أعمار أكثر من ثلثي السعوديين تقل عن الثلاثين عاما. لكن إذا توفرت الحوافز الكافية، فسيحصل السعوديون على فرص عمل إضافية في القطاع الخاص المحلي. ومع أن المملكة تشغل الآن مرتبة متأخرة في الشرق الأوسط على صعيد نسَب المواطنات العاملات، فإن الضرورة الاقتصادية ستدفع الكثير من السعوديات إلى البحث عن وظائف. ففي أوائل التسعينات، بلغت نسبة السعوديات العاملات 5 في المائة فقط من مجموع العاملين في السوق المحلية، بينما تبلغ هذه النسبة حاليا 15 في المائة. وبسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، أصبح الراتب الواحد غير كاف لتلبية احتياجات الكثير من أسر المملكة. لذا، يتعين على المرأة السعودية أن تسهم في تلبية احتياجات أسرتها.

ليس هذا فحسب، بل إن الإسكان والطاقة المستدامة في المملكة يتطلبان تغييرات حتمية. فقد غدت أسعار العقارات السكنية بعيدة عن متناول غالبية الشباب السعودي، مما دفعهم إلى الاستئجار أو العيش مع الوالدين لفترات طويلة بعد الزواج. لذا أصبحت البلاد أمام استحقاقين حتميين؛ تمرير قانون الرهن العقاري الجديد، وتخصيص الدولة مزيدا من الأراضي لتعزيز التنمية العقارية، كما أمر به خادم الحرمين الشريفين (أطال الله في عمره)، بتخصيص وبناء 500 ألف وحدة سكنية بأمر عاجل.

وتعمل المملكة على تطوير مصادرها المستدامة للطاقة لأنها تدرك مدى الحاجة إلى تقليص اعتمادها الحالي على الهيدروكربونات. فإذا استمر نمو استهلاكها للنفط بالمعدلات الحالية، فلن تستطيع المملكة تصدير أكثر من سبعة ملايين برميل يوميا بحلول عام 2028، علما بأن عدد سكانها سيرتفع من سبعة وعشرين مليون نسمة حاليا إلى أربعة وثلاثين مليون نسمة بحلول عام 2028. وبالنتيجة، تسير المملكة حتما نحو مستقبل تسوده تقنيات الطاقة النظيفة والخضراء.

يُضاف إلى ذلك حقيقة أن سعودية اليوم تختلف كثيرا عن سعودية الخمسينات من حيث المؤسسات والمعرفة التخصصية وموارد رأس المال؛ فالمؤسسات الوطنية التي تدير الاقتصاد السعودي بكل جوانبه وأبعاده تتمتع حاليا بقدر أكبر من العمق والاستمرارية. وخير دليل على ذلك هو حقيقة أن الأزمة المالية التي هزت العالم المتقدم منذ عام 2009، لم تترك إلا أثرا محدودا على النظام المصرفي السعودي، فقد استفاد مشرعو وبنوك المملكة، على حد سواء، من الدروس المستلهمة من تجربة الفوائض المالية التي سجلتها البلاد في الثمانينات. لذا، تقف المملكة اليوم على أرض اقتصادية صلبة. كما أن نسبة الدين العام السعودي إلى إجمالي الناتج المحلي تبلغ 10.2 في المائة فقط، وتُعد من أدنى مستويات المديونية العامة في مجموعة العشرين. وعززت المملكة أيضا أصولها الخارجية التي تمثل حاليا 102 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي. كما دأبت لعقود طويلة على تلبية جميع النداءات الدولية المطالبة بزيادة إمدادات النفط. وخلافا لمعظم الدول المصدرة للنفط، استثمرت المملكة مؤخرا أكثر من ثلاثة وستين مليار دولار لرفع قدرتها على إنتاج النفط إلى 12.5 مليون برميل يوميا.

أخيرا وليس آخرا، تبشر التغييرات الحتمية المقبلة بأن مستقبل المملكة سيكون ألمع بكثير مما يتوقع الكثيرون.

* مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين، البنك السعودي - الفرنسي