مصر: نملة تهدد فيلا!

TT

لا أستطيع أن أنسى هذا المشهد خلال زيارتي الأسابيع الماضية إلى مصر.. فتاة تسد بسيارتها الصغيرة، التي تناسب حجمها، الطريق أمام شاحنة ضخمة ارتفاعها يقترب من طابقين وطولها يملأ شارعا، وهي قد خرجت من سيارتها ووقفت في الشارع لتزعق، في غضب، في سائق الشاحنة الذي حاول تفادي الزحام الشديد على طريق سريع يربط القاهرة بمدينة 6 أكتوبر بالقفز على الحاجز في وسط الطريق للسير في الاتجاه العكسي للمرور، وكان مشهدا أقرب بنملة تهدد فيلا (إذا أخذنا في الاعتبار حجم السيارتين)، واضطر الفيل إلى الانصياع والعودة إلى طريقه مرة أخرى بعدما شعر بالإحراج من تهوره وتعريضه حياة الآخرين للخطر.

مشاهد المرور والطرق العامة في مصر حياة أخرى يمضي الناس فيها ساعات يوميا، وتحتاج إلى روائي لتوثيقها، خاصة في القاهرة المزدحمة، التي وجد سكانها أنه يتعين عليهم أن ينظموا المرور بأنفسهم لعدة أسابيع بعد ثورة «25 يناير» قبل نزول رجال من شرطة المرور.

ووسط المشهد الفوضوي في ساعات الذروة تبدو الأزمة في مصر، التي أدت إلى الثورة في 25 يناير (كانون الثاني)، مجسدة في أزمة المرور بالقاهرة؛ فقد ترك الناس ليتصارعوا ويتصارخوا في شق طريقهم إلى أعمالهم وارتباطاتهم ليصلوا متوتري الأعصاب وثائرين وصدورهم معبأة بدخان العوادم من دون أن يفكر أحد ممن بيده الأمر في حل جدي وعلمي يخفف المعاناة ويوقف هذا الهدر المتمثل في البنزين المدعوم بعشرات المليارات، الذي يستنزف في الطريق.

الجانب الآخر لرحلة الطريق في القاهرة هو أحاديث التاكسيات، وهو فرصة لمعرفة مزاج قطاع من الرأي العام، شرط عدم تصديق كل ما يقال.

وهذه هي بعض نماذج الأحاديث مع سائقي التاكسي في القاهرة: أحدهم مشغول بما يدور عن قصص عشرات المليارات من الدولارات التي نُهبت من النظام السابق وتقارير محاولة استرجاعها من الخارج، وهو يريد معرفة ما إذا كان سيجري توزيع هذه الأموال على الناس إذا جرى استرجاعها، وكمثال كل مواطن يحصل على 3 ملايين جنيه، وقد فشلت المحاولة الخجول من جانبي في إيضاح أنه بفرض عودة مثل هذه الأموال فإن حصول كل واحد على نصيبه بهذا الشكل شيء غير واقعي. الثاني شعر بغضب عندما رأى احتجاجا صغيرا لم يسد الطريق أمام إحدى الشركات يطالب منظموه بإقالة قيادات الشركة، وقال: الآن كل من لا يعجبه رئيسه يريد إقالته.. وكان مفهوما أنه قلق من انخفاض حجم العمل. الثالث تحدث عن التقارير الإعلامية المناهضة للمتظاهرين في ميدان التحرير خلال ذروة الأحداث، التي كانت تقول إنهم يوزعون أموالا بالدولار واليورو، وقال إنه ظل أسبوعا يذهب إلى هناك على أمل أن يوزع أحد شيئا عليه، وعندما لم يجد أحدا يوزع أي أموال قرر العودة إلى مقهاه في الحي الذي يقيم فيه حتى تنجلي الأحداث.

أكثرهم إثارة هذا السائق، وكان، على حد روايته، بين المعتصمين في ميدان التحرير، وهو غاضب من التركيز على شباب الطبقة الوسطى فقط في الثورة، وقال إن الشبان القادمين من الأحياء الشعبية والفقيرة هم الذين حموا هؤلاء من هجمات الأمن والبلطجية، ووجهة نظره، التي تستحق الوقوف أمامها، هي أن هذه الأحياء الفقيرة يجب أن يكون لها ممثلوها في الحكم والعملية السياسية، وحذر من أن الثورة المقبلة ستكون ثورة جياع.

مصر كلها بكل فئاتها تتحدث سياسة الآن، بما في ذلك تاكسياتها، والذي لا يعرف يحاول التعلم والاستفهام ممن يفترض أنه يعرف عن معنى الكلمات الكبيرة التي يسمعها في التلفزيون والصحافة مثل النظامين البرلماني والرئاسي والحكومة الائتلافية التي أخطأ أحدهم بعفوية وظن أن السائل يقول حكومة اختلافية.. إلى آخره.

ومهمة النخبة السياسية، والقوى التي أحدثت التغيير وقادته أن تكون مع الناس تشرح وتصحح المفاهيم وتوعي وتخلق جوا من الثقافة السياسية حتى يكون الاختيار ناضجا عند الدعوة إلى صناديق الاقتراع.