«الخمير الخضر»

TT

«الخمير الحمر» هو الاسم الذي عرف به أرتال من تابعي الحزب الشيوعي الكمبودي بزعامة المجنون الطاغية بول بوت، الذين كانوا يعرفون بربطة الرأس الملفوفة حول الجبين بلونها الأحمر الداكن، وهذا الطاغية الذي كان يعتمد على أعتى وسائل الترهيب وغسل الدماغ لأتباعه، إضافة إلى إلهائهم بتعاطي الهيروين ليصبحوا طيعين له إلى أبعد درجة، تسبب في مجزرة وإبادة غير مسبوقة لملايين من الكمبوديين، وكانت الجماجم ترمى بالآلاف فوق بعضها مشكّلة جبالا صغيرة في مشاهد متوحشة مروعة. واليوم نرى مشاهد مصغرة لهذا الجنون بقيادة القذافي وكتائبه من «الخمير الخضر». ما يحصل اليوم من قبل القذافي وأولاده وقبيلته ومرتزقته هو مشهد جديد لعبادة الأصنام والوثنية السياسية وتقديس الزعامات.. مهاويس يربطون رؤوسهم بالأقمشة الخضراء.. سنوات من «السكرة» التي شربوها من كأس الكتاب الأخضر ومن المؤتمرات الشعبية المضللة التي ما كانت إلا أسلوبا هزليا لتكريس حكم القذافي وزمرته، وتمهيدا لتوريث الحكم لأبنائه من بعده. إنه مشهد ليس بغريب عما سبقه من حكم العسكر الموتور الذي جاء بالوعود البراقة وحاول أن يقنع الناس بأنه جاء نتاج ثورة شعبية، وأنه جاء لتصحيح وإصلاح الأوضاع الخاطئة، وأن كل قراراته وسياساته هي «ثمن مقبول ومطلوب» لأجل نيات الثورة العظيمة حتى يصبح الذل والظلم والفساد والبطش سمة اعتيادية للنظام، ويصبح هو الطبيعي، والمطالبة بحياة كريمة تصبح بالتالي «خيانة» و«عمالة» و«تبعية» للإمبريالية والقوى الرجعية، وغيرها من الشعارات الفارغة التي ترددها تلك الأنظمة المستبدة. رأينا ذلك بوضوح في فترة جمال عبد الناصر وحزبه الأوحد «الاتحاد الاشتراكي» وكيف حول الحزب إلى أداة قمعية ومنبر لتكريسه كـ«الزعيم الخالد»، يدعمه في ذلك قوى القمع من مباحث أمن دولة كانت سجونها تمتلئ عن بكرة أبيها بالأبرياء. وليس عبد الناصر وحده في هذا المجال ولكنه نجح في تصدير ثورته إلى العالم العربي لنرى نفس الطقوس تتكرر بنماذج أخرى تكتسب الطابع الخاص والمحلي لكل دولة، فالعراق كرر التجربة باستخدام حزب البعث، ذلك الحزب المعتمد على فكر مضلل طرز شعارات خيالية حول الوحدة والحرية والاشتراكية فلم ينجح في تقديم أي منها وكرس جل جهده على التنكيل بشعبه وذله ومضايقة جيرانه، مولدا مناخا مرعبا وسجونا هائلة وتقديسا للقائد الحاكم، وتكرر ذلك الأمر بصورة هزلية مفجعة في دول أخرى بطبيعة الحال حتى وصلت بشكلها المقزز إلى ليبيا. إذا كان المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي حاول بإسهاب جميل أن يفند ويحلل ظاهرة خنوع بعض الدول العربية للغرب وسمى هذه الحالة «القابلية للاستعمار»، لكن يبدو أن ظاهرة «القابلية للاستعباد» تبقى ظاهرة عصية على الفهم والقبول، ولعل أقرب تشبيه لها هو ما حاوله بعض علماء النفس.. حيث تشبيه تعلق المحكوم المذلول بالحاكم المستبد هو «عقدة استوكهولم»، وهو المسمى الذي اتفق علماء النفس عليه حين يشفق «المختطف» على خاطفيه ويتعاطف معهم ويدافع عن نياتهم، وقد يرفض حتى في بعض الأحيان أن يتركهم، إنها حالة عجيبة! فاليوم المشهد الليبي العجيب يواصل الإدهاش وإثارة اشمئزازه.. من جنون الحاكم والتبعية المسلوبة الإرادة لمناصريه، وهم أشبه بحالة تخدير كامل وسكر تام لا يمكن أن تفسر إلا بأنها قابلية مدهشة للاستعباد للنفس المنكسرة والمهزومة، وهو ما تنجح في عمله تماما هذه النوعية من الأنظمة المجرمة بحق المواطنين فيها، لأنها لا تعرف أسلوبا آخر للبقاء في الحكم إلا عبر هذه الطريقة، كالسرطان البطيء الذي يدمر الخلايا.. هكذا يكون الحكم المستبد الظالم بحق الناس الكرام. ساعة الظلم هي من ساعة الباطل، وهو زاهق لا محالة.

[email protected]