أميركا والثورات العربية

TT

الثورات العربية أصبحت واحدة من الظواهر العالمية؛ فهي لم تأت إلى بلد واحد بل سارت كحركة «الدومينو» من بلد إلى آخر سواء أكان كبيرا مساحة وسكانا، أم صغيرا. اختلفت الأشكال والأنماط والتطورات، لكن الحقائق الأساسية بقيت كما هي؛ فالشعوب لم تعد راضية، وعدم الرضا طلب الحركة ورفض السكون، وما جاء كان ثورات اختلفت شدتها ومدى التورط الخارجي فيها، لكنها كانت كلها تعني «إسقاط النظام». ولم يكن النظام مجرد حكام أو حكومة أو سياسات دولة، بل كان في معظم الأحوال طريقة حياة لم تعد مناسبة لمقتضى الحال. وبالطبع فإن حركة الشعوب أكثر تعقيدا من استخلاص ما، وفي أحوال فإن الشعوب كانت تعرف بدقة ما ترفضه، لكنها في أحوال أكثر لم تكن تعرف ما تريده على وجه الدقة، أما إذا عرفته فإنها لا تعرف كيف تحققه سواء أكان وقف الفساد أم إقامة النظام الديمقراطي.

المهم أنه لم تعد لدينا ثورة شعب، ولكن ثورة منطقة كاملة تقع في قلب العالم، وتنام على أكبر بحيرة للطاقة عرفتها البشرية. وكأن القدر جاء ليذكر الدنيا كلها بهذه الحقيقة المهمة فجرى زلزال اليابان وما تبعه من توابع وتسونامي جعل الدنيا كلها تضع يدها على قلبها من انصهار المفاعلات النووية، وبالتالي وأيا ما كانت النتائج على الأرض فإن البديل الأول للنفط كمصدر للطاقة أخذ ضربة في الصميم سوف تعطل مساره لسنوات طويلة مقبلة. ولا أدري ما إذا كانت الدول العربية ذاتها، التي أعلنت عن نيتها لتبني المشاريع النووية كنوع من المكانة العالمية والإعلان عن أنها لا تقل قدرة عن إيران وإسرائيل، سوف تتوقف عن مشاريعها أو لا، لكن النفط العربي سوف يبقى مصلحة استراتيجية عليا، سواء أكان ذلك للولايات المتحدة الأميركية أم للعالم كله.

هنا نعود إلى بداية القصة، وهي: كيف نفهم السلوك الأميركي إزاء الثورات العربية المتتابعة؟ ولماذا صعد الاهتمام أحيانا وهبط أحيانا أخرى؟ وكيف كانت اللهجة حادة مرة، وناعمة بالرجاء لأطراف الحكم والمعارضة بتجنب العنف مرات أخرى؟ ومن السهل تفسير السلوك الأميركي دائما بالمصالح الأميركية في المنطقة، ومن الأسهل أنه طالما كانت الثورات تصدر رائحة ديمقراطية فإن السعادة الأميركية سوف تكون أكبر، أما إذا ظهر الشبح «الإسلامي» - وأنواعه كثيرة: إخوانية وجهادية وسلفية وخمينية - فإن الحذر يكون دائما واجبا.

لكن المسألة بالنسبة للولايات المتحدة دائما أكثر تعقيدا من ذلك لأسباب تخصها أولا؛ لأن الاقتراب منها لا يعين حاكما بل ربما يكون الاقتراب قبلة الموت الذي ما بعده بعث. لكن ما لا يخصها ثانيا هو الحالة الثورية ذاتها وطبيعتها المتغيرة طوال الوقت. وما عليك إلا أن تراقب أحوال الثورات العربية المختلفة حتى تجد أنه على ما فيها من تماثل إلا أن تنوعها من حيث المدة والكثافة واستخدام السلاح وطبيعة النظام القائم ومدى قدرته على التلاعب بالأقدار يجعل واشنطن كلها واقعة في الحيرة دائما. والمسألة ببساطة هي أنه كلما تنوعت الأحوال كان رد الفعل الأميركي يحتاج الحالة نفسها من التنوع، خاصة إذا جاءتها نصائح متنوعة من مراكز البحوث والتفكير في العاصمة، وهي كلها مختلفة المنطق والتوجهات.

ذلك كله يحدث في واشنطن، بينما الواقع الحادث في كل بلد عربي هو في الحقيقة الحاكم للقضية كلها. وربما كان حسني مبارك وديعا وغادر موقعه بعد 18 يوما من الثورة، إلا أن الحال كذلك لم يكن في ليبيا ولا في اليمن ولا هو متوقع أن يكون كذلك في سورية. وحينما يكون الحال في المجتمعات العربية يتغير من بلد نهري شبه متجانس إلى آخر قبلي إلى ثالث تتنوع مذاهبه وطوائفه وعقائده إلى رابع يتحكم فيه حزب واحد، وبعده خامس مثل ليبيا تحكمه شخصية لها طابعها الخاص مثل العقيد القذافي وأبنائه على تنوع توجهاتهم أيضا، فإن حسابات السياسة لا تصبح معقدة فقط وإنما يوجد فيها الكثير من الركون إلى الحظ، وربما أيضا نصيحة الحلفاء.

فما تعرفه الولايات المتحدة جيدا أنها لم تعد تستطيع أن تحكم العالم وحدها، وليس لديها من المال والموارد ما يضيف إلى مصائبها في العراق وأفغانستان مع العجز المزمن في الميزانية الذي يطلب تقشفا خاصا. من هنا فإن أهمية الحلفاء تصبح أعلى من أي وقت مضى، لكن الحلفاء لديهم أيضا ما يشغل بالهم، وإذا كانت أوروبا مهتمة بالثورة الليبية فإن عليها أن تضع الثورة في كفة ميزان وإفلاس البرتغال في كفته الأخرى. أما اليابان التي كانت دوما حليفا جيدا فإنها تحمل مصيبتها الطبيعية والنووية على كتفها ويكفيها ما لديها حتى لا يوجد نصيب لدولة عربية ثارت أخيرا بعد أن ساد الظن أن عصر الثورات الكبرى قد انتهى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية.

ذلك كله يعني أن نصيب الولايات المتحدة من الثورات العربية قليل، ومن الممكن للمتحدث في البيت الأبيض أن يستنكر أو يدعو أو يطالب، لكن تأثيره في الأحداث محدود. فحتى عندما قرر التدخل العسكري في ليبيا متصورا أن النظام سوف يسقط في الأيام التالية إذا بالقصة الليبية تطول أكثر مما هو مقدر ولم يعد ممكنا إلا ترك الأمر كله للأوروبيين.

لكن ليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة سوف تكف عن التفكير فيما يحدث للثورة العربية، بل لعلها مهتمة ليس بالثورة ذاتها، بقدر ما هي مهتمة بنتائجها وما سوف تسفر عنه.. فمعظم هذه الثورات، حتى الآن، مغلفة برداء ديمقراطي ورفض الطغيان والفساد والاستبداد، لكن على الجانب الآخر، توجد قوة ثورية حقيقية مشاركة فيما يجري متعصبة وأصولية ولا يهمها الديمقراطية بقدر ما هي مهتمة بنظام خاص للحكم ليس فيه من الديمقراطية، كما تعرفها أميركا ودول العالم الأخرى، شيء.

معنى ذلك أنه أيا ما كانت الظروف المقبلة، ومدى نجاح أو فشل الثورات العربية، فإن «ربيع الديمقراطية» في العالم العربي منذر، وهو في الأحوال كلها غارق في الشك وغياب اليقين. والأرجح أن المنطقة كلها سوف تدخل إلى مرحلة من الدوار وربما الفوضى تؤرق من بيده القرار في البيت الأبيض. لكن أكثر ما يشغله هو ما الذي سوف يحدث ليس فقط في أسعار النفط، ولكن ما الذي سوف يحدث بين الحكومات العربية الجديدة - ديمقراطية أو فاشية – وإسرائيل.. هنا مربط الفرس الذي ربما لا يجعل أوباما ينام الليل هذه الأيام.