قول في الإسلاموفوبيا

TT

الإسلاموفوبيا تركيب مزجي من كلمتين: الإسلام + فوبيا. والفوبيا Phobia مصطلح سيكولوجي يعني الخوف المرضي المجهول المصدر. إنه الخوف الذي لا يجد تبريرا معقولا في الحياة العملية، ولكن يتعين البحث عنه في الماضي اللاشعوري للشخص الذي تظهر عليه علامة ذلك المرض المميزة. من الأشكال النموذجية المعروفة للخوف المرضي، على ما ذكرنا، الخوف من الأماكن المرتفعة أو الألطوفوبيا، والخوف من الأماكن الضيقة أو الكلوستروفوبيا Claustrophobia - وفي المعتاد ينعت الرفض المرضي للغريب أو الأجنبي بالزينوفوبيا Xénophobia (= الخوف المرضي من الناس). وهذا النوع الأخير نجده، في المعتاد أيضا، ملازما للثقافات التي تنكفئ على ذاتها أو للثقافات الكبيرة في حالات العسر والانحدار. ومن الأكيد أن هنالك، في الغرب الأوروبي وفي الغرب الأميركي، صورا وأشكالا من الخوف المرضي من الإسلام أو الإسلاموفوبيا مما يستوجب، في البحث في الأسباب والنشأة، مقاربة نفسانية تحليلية. إنها نوع من المعالجة التحليلية النفسانية لنمط سلوك ثقافي، أو لنقل، ربما، إنها صورة من صور الانحراف الجماعي، ذي المظاهر الثقافية، الذي يستوجب إشراك فرع من فروع النفس الكبرى (هو علم النفس المرضي) في المقاربة.

نحن اليوم في العالم الغربي، بشقيه الأوروبي والأميركي، أمام حالات متنوعة من الإسلاموفوبيا تجد تفسيرات لها (والتفسير طلب للفهم، فهو إذن غير التبرير) في الجهل تارة، في سلوك بعض جماعات اتخذت من الإسلام ستارا وذريعة للعنف والاعتداء على الأبرياء، وفي إشكالات اجتماعية تتصل بحال المسلمين في دول أوروبا، وأميركا الشمالية، منذ العقود الأربعة الماضية.

لنقل، في البداية، كلمات قليلة وصفية في كل من المظاهر الثلاثة المذكورة.

فأما الجهل، فالقصد به ما نجده من خلط شديد في الأذهان بين الإسلام دينا وحضارة، والغلو الذي يبلغ درجة ارتكاب العنف، بل والقتل والاعتداء على الأرواح والممتلكات. هناك الفرد المسلم الذي ينتمي إلى الإسلام من حيث هو مجموعة من الاعتقادات والممارسات، ومن حيث هو دعوة إلى احترام الإنسان، والإعلاء من شأن الكرامة الإنسانية، ودعوة إلى الحوار وإعمال العقل والعيش المشترك الكريم مع الأفراد والأقوام المخالفين في العقيدة. وهناك التشبع بالآراء الشاذة الغارق في الغلو (والغلو منهي عنه شرعا بالنص القرآني وبالحديث النبوي الصريح)، والرافض الداعي إلى العنف الذي يصح القول فيه، بمعايير علم النفس الذي أشرنا إليها أعلاه، إنه يجسد شكلا بغيضا من أشكال Xémophobia - ومعلوم أن كل الديانات والطوائف تعرف شذوذا يتجلى في وجود متطرفين لا يتورعون عن ارتكاب كل أشكال العنف والحرب الدمويين. فرق كبير بين الصورتين، غير أن الجهل يحمل على الخلط بينهما، كما أن هنالك معطيات موضوعية تأتي لتدعيم هذا الخلط وتذكيه، مثلما أن وسائل الإعلام ووسائل الآيديولوجيا تكون خادمة لهذه النعرات فتسهم في الخلط بين المسلم والمتطرف «الإسلامي» الذي ينتسب إلى مذهب الشناعة والغلو ولا يتورع عن ارتكاب الحماقات والفظائع.

نحن إذن، في صورة موجزة جدا، أمام حالتين من حالات الإسلاموفوبيا تتقاطع وتتعاضد في ما بينها. إن المجال لا يتسع لنا لأن نذهب أبعد مما أشرنا إليها، غير أننا نذكر، في إيماءة سريعة، أن المعجم الصادر عن «مركز المساواة في الحظوظ»، الموجود مقره في بروكسل، يذكر في محاولة تعريف الخوف المرضي من الإسلام ما يلي: «الإسلاموفوبيا تعني كراهية ورفض نوع من الإسلام يتم تقليصه في ماهية شرية (بتشديد الراء وكسرها، وبالتالي نسبة إلى الشر)، والحال أن الإسلام حدث جماعي، سواء نظرنا إليه في مستوياته الاجتماعية والجغرافية والتاريخية أو اعتبرها في المستوى الثقافي المحض. تتغذى هذه الكراهية بأفكار قبلية وتصورات سلبية تقوم، في الأغلب الأعم من الأحوال، بعملية خلط بين كل من العربي، والإسلامي والإرهابي، والمتطرف، والإسلام، كما أنها تخلط بين الدين والثقافة».

وقبل ثلاثة عقود، على وجه التقريب، نعى إدوارد سعيد الانحسار الواقع في الدراسات التي تتصل بالعالم الإسلامي ودوله وثقافاته، فلاحظ الاختفاء التدريجي لأجيال من المتخصصين كانوا يجيدون معرفة لغات الإسلام المختلفة (العربية، التركية، الإيرانية، الأردية... وغيرها من اللغات)، فضلا عن الإحاطة بالمعارف الدينية والتاريخية والفلسفية، وفي مقابل هذا الاختفاء تعاظم حدود جيل جديد من «الخبراء» الذين لا يمتلكون شيئا مما كان السابقون عليه من أهل الاختصاص يعرفونه.. وإنما مبلغ علمهم معارف عامة، خاطئة، مع انعدام المعرفة بأي من لغات الشعوب الإسلامية. كذلك ينشأ جيل جديد من الخبراء ينتمون إلى وزارات الخارجية والدفاع ومصالح الأمن القومي في الدول الغربية، ولست أجد نعتا أفضل من ذلك الذي يطلقه عليهم أحد الباحثين الفرنسيين النابهين: «خبراء الخوف الجدد».

يجد الجهل سندا جديدا، قويا في الخوف، ومن ثم فإن الإسلاموفوبيا تكون وجها آخر من وجوه الخوف من الأجنبي أو الغريب والمخالف (الزينوفوبيا التي أشرنا إليها أعلاه).

تبقى الحالة الثالثة من حالات الخوف المرضي من الإسلام وهذه تتصل بواقع الأوروبيين المسلمين في الغرب الأوروبي خاصة (حتى لا نتحدث فقط عن المسلمين الذين هاجروا إلى دول أوروبا الغربية واستقروا فيها، وكان منهم أجيال. يشهد وجودهم الجيل الثالث من أبناء الهجرة تلك). والقول في حال الإسلام في أوروبا الغربية يتشعب ويطول، والحديث فيه ذو شجون، وهو، لا غرو في ذلك، يستدعي اجتناب المبتسر والغامض. غير أننا نقول، في عبارة جامعة مع توخي أكبر قدر ممكن من الوضوح، إن الأمر يتعلق بصعوبات اندماج هؤلاء المهاجرين (أو الذين كانوا كذلك منذ أجيال) في مجتمعات الدول التي يحملون جنسياتها (فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، ألمانيا، بريطانيا، هولندا، إسبانيا...). ومن خلال هذا المنبر ذكرنا، في حديث سابق، أن فرقا كبيرا يظل قائما بين حمل جنسية بلد بموجب قوانين ذلك البلد والانتساب إليه عاطفة وثقافة، وهذا من جهة أولى. كما أن هنالك فرقا بينا بين الاعتراف القانوني بالشخص باعتبار جواز السفر الذي يحمله (فرنسي، إيطالي، بريطاني... إلخ) والقبول العاطفي والثقافي له من قبل الساكنة الأصلية للبلد.. قدرة على الاندماج في البلد المختار من جانب أول، وقبول من الساكنة الأصلية لمواطن يدين بديانة «أخرى»، يدين بالإسلام، وهذا من جانب ثان.

عن كل هذا ينتج أن الإسلاموفوبيا ظاهرة معقدة، متشابكة الأطراف، والمقاربة العلاجية فيها تقتضي التوسل بكثير من الحكمة والمعرفة الصائبة. حالة «مرضية» تستدعي علاجا شاقا وعسيرا مما يجب القول فيه.