مسعى عبد الله بن عبد العزيز من «البيت العتيق» إلى «البيت التوفيق»

TT

ما تأخرت السعودية ما دامت على نحو المثل الشعبي جاءت. وهذه الدعوة التي جاءت منها، بعد التشاور مع الشقيقات عضوات «مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، لإكساب الاقتراح القاضي بدعوة أطراف النزاع في اليمن إلى مؤتمر حواري بهدف التوصل إلى تسوية ينعقد في الرياض، كانت أعقل المحاولات، كونها موضع الرعاية من قائد عربي سجل خلال ست سنوات من القيادة مواقف لمصلحة توحيد الصف، فضلا عن أن الجار أولى بالجار، ولا يمكن للملك عبد الله بن عبد العزيز وإخوانه وللشعب السعودي الذي تربطه أقدم الأواصر بأبناء اليمن شمالا وجنوبا وجبالا كانت في زمن مضى مسرحا لاحتراب، أن يترك الجار اليمني يمعن في العناد والتحدي، ولا تتوقف بالتالي جولات المعارضة ردا على صولات أهل النظام، الأمر الذي جعل الدم يسيل بغزارة والاهتمام العربي - الدولي لجهة منح اليمن الدعم الذي يساعد على تحقيق تنمية، يتعثر.

طوال أكثر من سنة يكتوي اليمن بنار الاقتتال. وفي الأشهر الخمسة الماضية لم تعد المنازلة دائرة بين «اليمن الحوثي» و«اليمن الصالحي» وإنما اتسعت مساحة الميادين وشملت العاصمة وكثيرا من المحافظات. وفي المحصلة ما قبل النهائية فإن لا أحد «انتصر» على الآخر، ونضع كلمة «انتصر» بين مزدوجين دلالة على أن المنازلة ما دامت بين أهل البلد الواحد وأن المتنازلين هم أشقاء وإخوان وأحيانا أبناء القبيلة الواحدة، فإن المنتصر فيها مهزوم، أو على نحو القول الطيب إن القاتل والقتيل في النار.

ولقد كان لافتا أن الجار السعودي ومعه بقية قادة الجوار الخليجي لم يسارعوا قبل ثلاثة أشهر إلى إطفاء النار التي تزداد اشتعالا في اليمن، ربما لانشغال هذه الدول بأمور داخلية تطلبت الجهود محاصرتها ومعالجتها بما لا يجعل نار الفتنة تتمدد من البحرين وصولا إلى الكويت مرورا بالسعودية. كذلك ربما كان التريث في المسارعة هو ترك أطراف النزاع اليمني يتأكدون من أن لا أحد سيخرج منتصرا وأن الحالة اليمنية ليست شبيهة حالات أخرى، وعندما يحدث التأكد وترتاح الحناجر والخناجر مما يحدث ويقتحم أصحاب السعي الطيب، وهم هنا الملك عبد الله بن عبد العزيز وبمؤازرة دول مجلس التعاون، ساحة العناد اليمني بالقول ما معناه من خلال الدعوة إن سلامتكم يا إخواننا أبناء اليمن هي في استقراركم وفي التوافق حول ما يحقق الرضا، ثم أليس المعروف عن الحكمة أنها يمانية... إنه عندما يحدث الاقتحام السعودي - الخليجي الطيب على نحو ما انتهى إليه سيناريو الحل يوم الأحد 15 أبريل (نيسان) 2011 وعلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب أو لا متقهقر ولا منتصر أو لا صاحب وجه بات لا ماء له وطيف معارض جف الماء في وجه ذلك الخصم، فلأن الوضع في اليمن ما زال في منأى عن «التحرش الأطلسي» على نحو ما جرى في ليبيا وما سبق حصوله في العراق وهذا ييسر أمر التوفيق.

ما يتمناه المرء هو أن يستعيد رموز النزاع في اليمن الوعي، أو الرشد على الأقل، ويستحضر هؤلاء كياسة حكماء تفتقدهم اليمن المضرجة بالدم والعنف والعناد كما افتقاد الليلة الظلماء للبدر.. بدر السماء وليس بدر الإمامة، ومن هؤلاء الحكماء على سبيل المثال لا الحصر الطيبا الذكر أحمد محمد نعمان والقاضي عبد الرحمن الإرياني. وفي الاستعادة التي نشير إليها تحدث المعاتبات التي تغسل القلوب، تليها مفردات الامتنان العربية للهفة السعودية ونخوة الملك عبد الله بن عبد العزيز تأتي في ضوء نجاح المسعى من اليمن وليبيا والمغرب والأردن ومصر والجزائر وسورية والعراق ولبنان وفلسطين وكل بقعة عربية يسيل الدم العربي فوقها دون وجه حق. وبعد ذلك لا نعود نرى على الشاشات هذه المأساة المضحكة - المبكية المتمثلة بتظاهرات متبادلة يسقط فيها ضحايا وتخطو البلاد اليمنية طريق العودة إلى ما كانت عليه في زمن غابر لا يريده مخلصون لها وبالذات عبد الله بن عبد العزيز.

وما يتمناه المرء أيضا هو أن يأتي الأقطاب اليمنيون المتنازعون بالروح التي أتى بموجبها سابقا أقطاب النزاع الفلسطيني من قادة «فتح» و«حماس» على أن يكون اليمنيون أكثر احتراما من إخوانهم الفلسطينيين لما تم الاتفاق حوله في رحاب مكة المكرمة وأقسم قادة «فتح» و«حماس» على احترامه. لكنهم مع الأسف حنثوا واستعادوا النزاع كلاما بالغ السوء والإهانة يتقاذفونه وكما لو أنهم في مباراة يريد كل طرف أن يسجل أمام الشعب الفلسطيني الذي يعاني ويقاسي أنه الطرف الأكثر عنادا وابتعادا عن جوهر القضية. وبالنسبة إلى إخواننا اليمنيين الذين لا أمل يرتجى للوطن من غرائب تحدياتهم وعنادهم فإن السيناريو الذي انتهت إليه الدبلوماسية الخليجية يغني عن مزيد من الدم يراق ويبعد احتمالات الحصار والحظر الجوي على النحو الذي تقاسي منه الليبيتان: ليبيا القذافية وليبيا المعترضة.. هذا إلى أن في ذاك السيناريو اقتباسا للحال التي انتهت إليها الأزمة في مصر: رئيس يتخلى لجيش يحرس الدولة ويحتضن الانتفاضة وحكومة تملك مقومات العيش والتعايش. هذا في مصر. أما في اليمن فرئيس يسلم السلطة إلى أبنائه وبذلك لا استسلام بالكامل ولا إهانة تؤسس للرد عليها ذات حقبة بإهانات وتنال المعارضة فرصة قد لا تنالها إذا استمرت المنازلات.

كما أننا وسط هذه التمنيات نتطلع إلى أن تكون محاولة عبد الله بن عبد العزيز، الذي ندعو له بموفور الصحة وطول العمر، لرأب الصدع اليمني، بداية محاولات لتحقيق مسعى مماثل لدى أطراف نزاعات عربية أخرى.

وهذه التمنيات والتطلعات مبنية على أساس أن «الرياض» التي أميرها سلمان بن عبد العزيز ليست فقط عاصمة مملكة عبد العزيز طيب الله ثراه وإنما هي أيضا أو كما يرنو أبناء الأمة إليه في هذه الظروف الصعبة للأمة «رياض التوفيق للجميع». وبعد التوفيق تحدث المعاتبات التي تغسل القلوب. ثم تطمئن القلوب.

ونخلص إلى القول إن إخواننا أصحاب الخلاف الفلسطيني الذين طالما تحاوروا ثم اتفقوا وأقسموا على مدى ثلاثة أيام فأشاعوا بذلك التفاؤل في نفوس أبناء الأمة، كانت حالهم ستبدو أفضل لو أنهم تمسكوا بما سعى إليه عبد الله بن عبد العزيز الذي جمعهم في رحاب «البيت العتيق» في مكة المكرمة وتمعنوا أيضا ماضيا ودائما في الآية الكريمة «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». وما يقال لإخواننا الفلسطينيين يقال أيضا لإخواننا اليمنيين رموز الصراع الذي لا جدوى من استمراره والذين من شأن جمع شملهم في «البيت التوفيق» الرياض أن يبدأوا معا مرحلة بناء اليمن السعيد حقا.. هذه المرة.