«تعريب» الديمقراطية

TT

فجيعة أن يكون ما عجز الرئيس الأميركي السابق «الملهم»، جورج بوش، عن تحقيقه في الشرق الأوسط.. يحققه اليوم ديكتاتوريو المنطقة العربية، وإن بأبشع الطرق.

كل جبروت الولايات المتحدة إبان أوج مجدها بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية لم يساعد جورج بوش في تحقيق حلم «المحافظين الجدد» برؤية شرق أوسط جديد تسوده الديمقراطية والحرية (وتتعزز فيه المصالح الأميركية طبعا). ولا يزال خلفه، الرئيس باراك أوباما، يدفع لغاية اليوم ضريبة فشل بوش الذريع في «تصدير» الديمقراطية إلى المشرق العربي، وتحويل الدولة التي احتلها عسكريا - العراق - إلى «نموذج» لها.

ولكن، سبحان من يغير ولا يتغير.

اليوم، وبفظاظة لن يغفرها التاريخ، حتى وإن غفرتها الشعوب، يعمل «ديكتاتوريو العروبة» على تحقيق ما عجز عنه جورج بوش وآلته العسكرية: شرق أوسط جديد تسوده ديمقراطية غير مستوردة من الخارج وغير مفروضة بقوة السلاح.

مقاربة جورج بوش لحلم الشرق الأوسط الجديد كانت خاطئة بقدر ما كانت مكلفة. لو علم آنذاك أن كل ما كان عليه أن يفعله لتحقيق حلم محافظيه الجدد هو وقف دعمه لحلفائه من الحكام العسكريين في الشرق الأوسط وانتظار نفاد صبر شعوبهم على استبدادهم برقابهم.. لكان ترك تقرير مصير الشرق الأوسط لشعوبه، وقطف، مجازا، ثمار مجد تحققه اليوم الشعوب العربية بلا جميله ولا تدخله. ولكان وفر على بلاده التكلفة البشرية والمادية الباهظة لاجتياح العراق. الفجيعة في هذا السياق أن «ديكتاتوريي العروبة» لا يختلفون كثيرا عن بوش في أسلوب تعاملهم مع مطالب الديمقراطية: بوش لجأ إلى السلاح لفرضها ففشل، وهم استعملوا السلاح لقمعها.. ففشلوا أيضا. والغريب على هذا الصعيد ألا يكون ثمة فارق بين السلاح الأميركي والسلاح «الوطني» في التعامل مع الجماهير العربية. كلاهما أدى بالأمانة المطلوبة منه مهمته في القمع وحصد الأرواح. ولكن إذا كان بوش استعمل آلته العسكرية لاجتياح بلد «أجنبي» فإن الفجيعة في تصرف الديكتاتوريات العربية أنها لم تتوان عن استعمال جيوشها وقواها الأمنية لاحتلال «أوطانها» وقمع شعوبها لإطالة عمر تربعها «سعيدا» على سدة الحكم بأعذار واهية قد يكون أكثرها ابتذالا ادعاء التصدي لـ«مؤامرة خارجية».

أوليست مذهلة هذه «المؤامرة» القادرة على تحريك شعوب الشرق الأوسط كلها، من مشرقها إلى مغربها، ودفعها إلى التضحية بالارواح في سبيل مطالب أصبحت من «تحصيل الحاصل» في القرن الواحد والعشرين: ديمقراطية وحرية وعدالة وشفافية في إدارة البلاد؟

أوليست مدهشة أيضا هذه «المؤامرة» اللاقائد لها سوى الشارع والشعور العام بأن الكيل قد طفح؟

مشكلة «ديكتاتوريي العروبة» أنهم لا يختلفون بشيء عن أي ديكتاتور كان، فقماشة الديكتاتور واحدة، سواء أكان في الشرق العربي أم في أميركا اللاتينية أم في الصين.

ولكن الجديد على عالم «ديكتاتوريي العروبة» أن قماشة الشعوب تغيرت فلم تعد هذه الشعوب قاصرة ولا متوجسة من آلات القمع والترهيب التي تتقن استعمالها الديكتاتوريات العربية.

بين تونس وبنغازي والقاهرة ودرعا.. جيل عربي شاب كسر حاجز الخوف والترهيب ليصر على أخذ حريته غلابا، مهما غلت أثمانها. وإذا كانت انتفاضة الشباب العربي تحديا مباشرا لأساليب الحكم - والأصح التحكم - البالية في بلادهم، فهي بالقدر نفسه تحد للغرب الذي رفع شعار الديمقراطية والحرية في العالم، وتاه في بحثه عن المقاربة المثلى لتطبيقها في الشرق العربي.

من هذا المنظور، انتفاضة الشباب العربي «عربت» رسالة دعاة الديمقراطية في الغرب، وأبلغتهم في الوقت نفسه، أن أولوية جيلهم هي ولوج القرن الحادي والعشرين من بوابة حقوق الإنسان وكرامته وحرياته البديهية.. ما يعني، استطرادا، أن المد الأصولي الذي يتخوف منه الغرب شارف على الانحسار في مجتمعاتهم المدنية.