ثورات بسمن وأخرى بزيت

TT

«ظلم بالسوية عدل بالرعية»، فإما أن يكون واحدنا ضد الثورات الشعبية العربية على طول الخط، سواء كانت في ليبيا أو في سوريا، على اعتبار أنها جالبة للفوضى ودخول في مغامرات ملتبسة، قد لا تحمد عقباها، وهذه وجهة نظر تحترم، وإما أن ينحاز المرء لصوت الشعوب المطالبة بالحرية أينما كانت، ولو اقتضى ذلك مخاضا عسيرا ومؤلما، وثمنا باهظا يتوجب دفعه، وهنا رأي آخر له وجاهته. أما أن تؤيد وتصفق لثورة هنا وتسم بالخيانة أخرى هناك في اللحظة ذاتها، فهذا مما لم يعد يفهم أو يعقل.

فمنذ بداية الانتفاضات العربية وفريق «14 آذار» في لبنان، يراهن على وصول الحمى إلى سورية وإيران تحديدا، على اعتبار أنهما البلدان الأحق بالحرية، لا ندري لماذا؟ في ما نظر إلى مطالب الشعبين التونسي والمصري وحتى الليبي، المحقة، على أنها مجرد ملعوب أميركي ملحق بمشروع بوش الشهير «الشرق الأوسط الجديد»، وثمة من تمادى في التخيل واعتبرها خطة فارسية انقلابية. وهو ما يعطي إيران حجما لا تدعيه هي نفسها. وما إن وصلت المظاهرات إلى سورية وإيران، حتى تراقصت الفرحة في عيون الشامتين وهم يرددون نفاقا «اللهم لا شماتة!» علما بأن الشعوب العربية التي تحدثنا عنها وتلك التي لم نذكرها، تستحق كلها تعاطفنا وتضامننا وهي تطالب بإنسانيتها وكرامتها. أما فريق «8 آذار» ومن ورائه إيران وعلى رأسه حزب الله، فقد جازفوا كثيرا حين سارعوا إلى إطلاق الزغاريد ابتهاجا بالنقمة التي اقتلعت مبارك وقبله بن علي، وهم ينذرون كل «أنظمة الاستكبار» التي انحازت للتعامل مع أميركا، بمصير مماثل، معتبرين أن نهج المقاومة يحمي أصحابه وعروشهم. وأهل المنطقة العربية بغالبيتهم، لسوء الحظ، إما من فريق 8 أو 14 آذار تبعا لميول كل منهم السياسية وتفسيراته الآيديولوجية، ولو لم يتبنوا هذه التسمية المسمومة ذاتها، إلا أن المضمون واحد، والنظرة الانشطارية الحولاء هي عينها.

وبما أن الغضب الشعبي لا آيديولوجية له فقد خابت آمال المزغردين والمراهنين من «مستكبرين» و«مقاومين»، وبدا أن الموجة تجاوزت الفريقين معا وطموحهما في تحقيق مكاسب محسوبة سلفا ومحدودة الأضرار، وها هي العاصفة الهوجاء تداهم الجميع. وهو ما يفسر التصريحات السياسية المتناقضة لأصحاب الشأن والقرار، عربا وغربيين. وبات كتاب ومنظرون يدافعون في المقال نفسه، عن ثورة ما وكأنهم أمها وأبوها، في ما يعتبرون ثورة أخرى مرضا خبيثا يجب استئصاله. وثمة في زحمة التنظير الانتقائي من تخصص في تعداد مساوئ الثورات حد تبجيل الخمود وتبرير الخمول الذي لا شفاء منه. ونسي كتابنا الأفاضل أن «من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه»، وأن ما يغفره الناس لسياسي، يتحرك تبعا لمصالحه والمنافع، لا ينسونه لكاتب يفترض أن يتوقى فيسلم، وألا يتهور فيندم، لا سيما في فترات مفصلية كالتي نعيش. ولنا في ما حدث في مصر وتونس وليبيا وقبلها جميعا العراق من فضائح لكتاب وفنانين، ما يستحق التأمل، لذا يتوجب على «من رأى العبرة في أخيه أن يتعظ».

وقف أوباما بعد أن أطاح الشعب بحسني مبارك ليقول للمصريين «لقد ألهمتمونا!» ومجد الرئيس الأميركي «اللاعنف والقوة المعنوية اللذين استطاعا ثني قوس التاريخ صوب العدالة مرة أخرى»، ولم نفهم لغاية اللحظة لماذا لم يلهم الشعب اليمني أوباما بالقدر نفسه، رغم أن هؤلاء المساكين يثابرون منذ ثلاثة أشهر على التظاهر، بسلمية تثير العجب والإعجاب. وهم شعب مسلح يمتلك أدوات القتال، لكنه اختار طوعا وتحضرا، مواجهة الرصاص بصدر عار. كما أن اليمن بلد لا تنقصه العراقة، فإذا كانت «مصر أدت دورا محوريا خلال ستة آلاف عام» وهو ما يثير إعجاب أوباما، فإن الحضارة اليمنية القديمة تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد.

ثمة ثورات بسمن وأخرى بزيت، وهناك أيضا من يريد أن يقنعنا بأن الشعوب التي غامرت بالانتفاض ستندم على ما فعلت يداها، وكأنما كانت تملك من الخيارات غير الانفجار، بعد عقود من الانتظار.

لا ينكر عاقل أن المنطقة دخلت مرحلة من الفوضى واللااستقرار وأن الآتي ليس بسهل، وإمكانية تعرض بعض البلدان لحالة تقسيم ليست بمستحيلة. كل المخاطر ماثلة للعيان، والخيارات لم تعد في يد الشعوب التي وضعت في أقفاص، وها هي عضلاتها تنمو بما يسمح لها بالخروج والتمرد، وهذه ردود فعل جماعية لا إرادية يصعب التحكم بها. الحلول الحقيقية هي بيد الحكام الذين يملكون القدرة على منح شعوبهم الحرية. والمسؤولية الأكبر تقع على عاتق الكتاب والمنظرين الذين يتوجب عليهم الخروج من خنادقهم، واصطفافاتهم ليروا العالم برحابة تسمح لهم بمصارحة أنفسهم، «فالبطنة تذهب الفطنة» كما قال العرب و«المقدرة تذهب الحفيظة». ونحن في أمس الحاجة لنرى مستقبل أولادنا من دون التعصب لأنظمة أو التزلم لأشخاص مهما ارتفع قدرهم وعلا شأنهم.

آلاف الشباب العرب قدموا أرواحهم خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، أي منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة في تونس، ولا تزال الانتفاضات مستمرة، والتضحيات يومية هادرة. قد نوافق هؤلاء على ما ثاروا ضده أو نعارضهم، قد نختلف على التوقيت أو الكيفية، قد نتناقش في النتائج من يحصدها أو يستثمرها. لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن كل الذين سقطوا، قضوا نحبهم وهم يلهجون بكلمة واحدة لا يملكون غيرها ألا وهي: «الحرية». مفردة تملك من النبل والصفاء ما يجعل المواقف المموهة اتجاهها عصية على القبول أو الابتلاع.