حمامة السلام ترفرف فوق العاصمة الأميركية

TT

تأسست واشنطن، عاصمة الولايات المتحدة، في أعقاب الثورة الأميركية على خلفية حرب. وفي عام 1814، قام البريطانيون بحرقها، مؤكدين مجددا على ارتباط المدينة، التي حملت اسم أحد الجنرالات، بالحرب.

وليس من المثير للعجب أن تمتلئ العاصمة الأميركية بآثار تجسد فترة الحرب. وفي الوقت الحاضر، تساوي الميزانية العسكرية الأميركية، التي تشكل نسبة 4.5% من إجمالي ناتجها المحلي السنوي، إجمالي نفقات كل من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي على الدفاع.

وفي الشهر الماضي، حصلت واشنطن على نصب تذكاري للسلام - ويمثل ذلك لمسة جديدة بالمدينة.

فبين نصب لينكولن التذكاري ومبنى الكونغرس، وبجانب مركز كيندي، يوجد معهد السلام الأميركي بسقفه الأبيض الذي يتخذ شكل جناحي حمامة.

وبالمصادفة، قام الرئيس جورج دبليو بوش بافتتاح هذا المبنى، في الوقت نفسه الذي بدأت فيه الطائرات الحربية الأميركية ضرباتها على ليبيا بأوامر من الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما. وفي احتفال في الليلة التالية، كان جميع الرؤساء الأربعة السابقين الذين لا يزالون على قيد الحياة حاضرين.

وربما يكون ضيوف الحفل قد تذكروا أنه، بطريقة أو بأخرى، شارك الرؤساء الأربعة جميعا في حروب. وفي حقيقة الأمر، فإن الرجال الأربعة والأربعين الذين قد شغلوا منصب رئيس الولايات المتحدة قد شاركوا على الأقل في حرب واحدة. وخلال الستين سنة المنصرمة، امتلكت الولايات المتحدة أقوى آلة حرب في التاريخ. وعلى الرغم من ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تشعر بالارتياح مطلقا لفكرة الحرب.

ومع وجود استثناء واحد أو استثناءين ملحوظين، لم تسع الولايات المتحدة مطلقا إلى تحقيق النصر الكامل.

ودائما ما كانت تنتاب الأميركيين مشاعر الفرحة لانتهاء أي حرب، على نحو يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب بكياسة. وكان ذلك هو الحال مع الحرب الكورية، مع أنها، بصورة ما، لم تنته بعد. وفي بعض الحالات، مثل حرب فيتنام والحروب الصغيرة في لبنان والصومال، كان ينظر حتى للانسحاب المخزي باعتباره أفضل من الاستمرار في معارك طويلة الأمد.

وقد ابتكر جيمي كارتر، الذي يعتبر رئيسا استثنائيا من أوجه عدة، طريقة مبتكرة لشن حرب. ففي عام 1980، أصدر أوامره بغزو إيران بست طائرات هليكوبتر وطائرتي نقل عسكري، في عملية كانت تهدف إلى إنقاذ الدبلوماسيين الأميركيين الذين كان احتجازهم كرهائن بمثابة إعلان للحرب على الولايات المتحدة. وحينما فشلت المهمة، كان كل ما فعله كارتر أن كتب خطابا إلى الحاكم المطلق داخل إيران، آية الله الخميني، ينشد «تحسين العلاقات». وأظهر ما اعتبر في النهاية عدم امتلاك سلطة، بل الشجاعة اللازمة لاستخدام أي سلطة.

في عقود سابقة، وقع اختيار الأميركيين على بعض الجنرالات أصحاب الانتصارات، أو على الأقل أصحاب المكانة الرفيعة، ليشغلوا منصب الرئيس. ومع ذلك، فعلى مدار القرن الماضي، انقلبت الدفة ضد الجيش. فقد كانت آخر مرة قام فيها الأميركيون بتأييد جنرال صاحب انتصارات لشغل منصب الرئيس في عام 1952، عندما قاموا بانتخاب دوايت ايزنهاور رئيسا للولايات المتحدة. وهناك قائمة طويلة برؤساء أميركيين انتصروا في حروب ولكن تم استبعادهم من منصب الرئاسة، بدءا من تيدي روزفلت وانتهاء ببوش الأب.

أما رؤساء آخرون، أمثال ليندون جونسون، فقد أطاحت بهم حروب لم ينجحوا في إنهائها. ففي حالة جونسون، كان من سخرية الأقدار أنه، في ما يتعلق بالسياسة الداخلية، كان واحدا من أنجح الرؤساء الأميركيين. وحتى الانتصار في حربين، مثلما كان الحال مع جورج دبليو بوش، ليس كافيا لضمان استمرار احتفاظ أي رئيس أميركي بشعبيته. وماذا عن هاري ترومان الذي ترك منصبه كأكثر رئيس غير محبوب في تاريخ الولايات المتحدة، على الرغم من الدور الذي لعبه في تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية؟

تلك هي القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة التي تجعل من انتصارها في أي حرب خارج حدودها، أمرا ليس صعبا بالنسبة لها. إنما الأمر الصعب بالنسبة لأي قائد أميركي هو الفوز في معركة على المستوى المحلي.

المشكلة معقدة لأن معظم الحروب تبدأ باكتساب شعبية، لكنها سرعان ما تنتهي بفقدان شعبيتها. ولنا أن نذكر موجة الدعم لغزو أفغانستان في 2001. وفي ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، أيد 92% من الأميركيين الحرب. وبعد مرور عام، قلت تلك النسبة إلى النصف. وفي الوقت الحاضر، بعد مرور 10 سنوات، وصلت نسبة الأميركيين المؤيدين لاستمرار التدخل في أفغانستان إلى 18% فقط.

وماذا عن الحرب من أجل تحرير العراق من ظلم حزب البعث؟ لم تحظ أي حرب في تاريخ الولايات المتحدة مطلقا بالدعم القوي من جانب الكونغرس مثلما حظيت حرب العراق. ومع ذلك، فبعد عام بالكاد من بدء الحرب، بدأ أكثر أنصارها تحمسا، مثل السيناتور جون كيري، يحاولون بجد إبعاد أنفسهم عنها.

وتبدو قصة تدخل الولايات المتحدة في ليبيا أكثر تشويقا. فقبل أسبوع من بدء الضربات الأميركية على العراق، كانت مقالات افتتاحية تطالب باتخاذ إجراء رادع ضد نظام الحكم الاستبدادي للعقيد معمر القذافي. غير أنه بعد ثلاثة أيام من بدء الضربات، كانت نفس المقالات الافتتاحية ترفض فكرة «الحرب».

لهذا، قرر أوباما، الذي تفوق على سابقيه في رغبته في الفوز بولاية رئاسية جديدة بأي ثمن، ابتكار طريقة أميركية جديدة لإنهاء أي حرب: التظاهر بأنها قد انتهت، ثم يصفر ويتنحى جانبا.

يبدو أوباما أشبه برجل يقبل دعوة إلى حفل، لكنه يغادره بمجرد أن يشعر بأنه لا يروق له. من المحتمل أن يكون قرار أوباما بالتراجع عاملا أساسيا في إقناع القذافي بالتشبث بالسلطة التي اعتقد من قبل أنه قد خسرها بالفعل.

ستتم الإطاحة بالقذافي في النهاية. لكن سيظهر التاريخ أن قرار أوباما ربما يكون قد تسبب في إطالة مدة الحرب الليبية. وما يبدو أن أوباما قد تجاهله هو أنه بإبعاده الولايات المتحدة عن مواقف الحرب التي تشكل جزءا أساسيا لا يتجزأ من الحياة الدولية، ربما ينهي بذلك أيضا دور أميركا كصانعة سلام. وبعبارة أخرى، فإنه في ما يتعلق بحل نزاع دولي، نجده يجعل الولايات المتحدة في صورة الطرف غير المهتم.

وبالنظر إلى أزمات عدة تجري مجراها في مختلف أنحاء العالم، يتبين أن أوباما قد نجح في تحويل الولايات المتحدة من شريك أساسي إلى مجرد متفرج أوشك أن يصبح في طي النسيان.

الولايات المتحدة ليست راغبة في شن حرب، وعلى الرغم من الحمامة بديعة المنظر داخل واشنطن، فإنها عاجزة عن تعزيز السلام أيضا.

إذن، ربما يكون ذلك ما أراده أوباما بالفعل.. من يدري؟