لكي لا تتكرر أزمة «ما بعد الاستقلال» في الوطن العربي

TT

تعلمنا من منهج القرآن حقيقة أو قاعدة «رفع الإيهام قبل أن يقع في الأذهان». ومن براهين هذه القاعدة: «وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما».. فهذه واقعة قضائية نظر فيها داود وسليمان - عليهما السلام - فأُلهم سليمان الحكم بالصواب فيها. وهنا قد يفد إلى الذهن وهْم أن أباه داود أقل علما، ولذلك رُفع هذا الوهم قبل أن يفد إلى الذهن: رُفع بعبارة «وكلا آتينا حكما وعلما».

واهتداء بهذه القاعدة الجليلة الجميلة، ندفع وهما قبل أن يقع في ذهن أحد وهو يقرأ هذا المقال فنقول:

أولا: ليس في هذا المقال ذرة ولا معنى يميل - سنتيمترا ولا أقل - إلى تأييد الديكتاتورية والاستبداد - الذي قام الناس عليه.. فليس يحق لمسلم أن يتعاطف مع الاستبداد والطغيان وهو يقرأ كتاب ربه: «وخاب كل جبار عنيد».. ويقرأ: «وإن للطاغين لشر مآب».

ثانيا: إن هذا المقال دعوة للاجتهاد السياسي وتكوين رؤية سياسية واجتماعية صلبة وأصيلة تعقب التغييرات وتهديها بما يتوجب الاهتداء به في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.. وليس المقال - من ثم - دعوة إلى التخذيل والتيئيس.

في حقبة سابقة، ماج الوطن العربي والعالم الإسلامي بحركات الاستقلال عن الاستعمار.. وعلى تفاوت في آماد هذه الحركات ظفر العرب والمسلمون بالاستقلال في النهاية.

فكيف سارت الأحوال بعد الاستقلال؟

في الغالب، كانت برامج الذين نادوا بالاستقلال محصورة - تقريبا - في هذا الشعار الجذاب، والمعبر - موضوعيا - عن مطالب تلك الحقبة. فلما حصل الاستقلال، لم يكن بين أيدي الزعماء الوطنيين منهج قويم - وعملي - للبناء والنهوض، سواء على الصعيد الاجتماعي والفكري والثقافي، أو على الصعيد السياسي والاقتصادي. بمعنى أنه لم يحصل اجتهاد وطني خصيب في هذه المجالات.. وعندئذ مالت الذات إلى ما هو أسهل: مالت إلى استعارة نموذج الليبرالية أو الديمقراطية الغربية: انتخابات.. وأحزاب.. ومعارضة منظمة.. إلخ.

وكان هذا «شكلا ديمقراطيا» بلا محتوى. فقد ظن ظانون كثر أن الشكل الديمقراطي المجرد ينتج - تلقائيا - الحلول الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما ظن أناس - من قبل ومن بعد - أن الديمقراطية دواء من كل داء.. وهذا تعميم أو مطلقات مبهمة تشبه شعارا إسلاميا مجملا مبهما «الإسلام هو الحل».. وما نشك لحظة في أن الإسلام يهدي إلى التي هي أقوم في كل شيء بحكم مصدره الذي لا يهدي إلى الحق إلا هو تبارك في علاه: «قل الله يهدي للحق».. بيد أن هذا الشعار بطريقته المجملة المبهمة هذه هو شعار مُضِلّ: يزيد الحيرة ولا يرفعها.

استعار زعماء الاستقلال الديمقراطية - بمفهومها الغربي - وحكموا بها المجتمعات والدول حينا من الدهر.

فكيف سارت الأحوال بعد الاستقلال؟

كان التخبط هو سيد الموقف في الغالب. وكان الصراع الحزبي يلتهب دوما، ولا يبرد قط، وهو صراع نشأت عنه مكايد وخصومات حملت الحزبيين جميعا على أن يجعلا أوليتهما المطلقة هي الانتصار للحزب وزعامته، لا الانتصار للوطن وقضاياه.. وفي غمرة هذا الصراع الكالح العقيم المجنون، تعطلت المصالح الحيوية للناس والأوطان حتى سئم الناس الأحزاب وأفعالها، كما سئموا وعاءها العام وهو «الديمقراطية الشكلية».

هنالك ماجت الأمة العربية الإسلامية بظواهر جديدة: ظواهر الانقلابات العسكرية.. ولئن كانت مرحلة الأربعينات بعيدة - نسبيا - عن الذاكرة، فلعل مثلا قريبا، عمره سنوات عشر تقريبا، حديث العهد بالذاكرة والوعي.. لعل هذا المثل يقرب الصورة.. حين قام برويز مشرف بانقلابه الأول في باكستان استقبل بفرحة عامة، ومظاهرات تأييد اقترنت بتوزيع حلوى ومرطبات (!!!!).. واقترنت بالإشادة بالانقلاب من قبل المعارضة بمختلف راياتها وفصائلها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، كما استقبل الانقلاب بإقامة «صلاة شكر».. وكانت الآلة الإعلامية الباكستانية قد استدارت 180 درجة من خلال الثناء على الانقلاب، وتلميع الانقلابيين.. هذه الفرحة العامة - والغريبة - بالانقلاب العسكري ما سببها؟.. هل هو الحب والهيام بالانقلابات العسكرية؟.. أم هو الكراهية العميقة للوضع السياسي (الديمقراطي) السابق؟!.. وما الذي جمع بين النقائض ووحّدها تجاه تأييد انقلاب مشرف؟.. ما الذي جمع بين «بي نظير بوتو» التي باركت الانقلاب وأثنت على قائده، و«الجماعة الإسلامية» التي نشطت في الدعوة إلى إقامة صلاة شكر؟!.. الجامع بين النقائض هو الاشمئزاز العميق من التردي السياسي الديمقراطي الذي سبق الانقلاب وكان سببا له وذريعة.

وتكاد تفاصيل هذا المشهد الباكستاني تتطابق - في الجملة والتفاصيل - مع المشاهد السياسية التي سبقت - بسنوات ثلاث - الانقلابات في سورية ومصر والسودان والعراق، وهي انقلابات قامت على أنقاض الأوضاع الديمقراطية السيئة في تلك البلدان. وبعيد جد بعيد أن يكون هذا الكلام تسويقا للانقلابات، فنحن ضد الانقلابات من حيث المبدأ، وضدها من حيث العبرة بالنتائج المرة لحكمها وممارساتها.. والمقصود هو تصوير «الحالة» كما هي، وهي صورة يمكن أن يحصل عليها من يقرأ الصحافة - في البلدان العربية الأربع السابقة - قبيل الانقلابات بسنتين أو ثلاث.

فماذا فعلت الانقلابات العسكرية التي قامت على أنقاض الأوضاع الديمقراطية المضطربة؟.. فشلت في التنمية.. وفشلت في التعامل مع الحريات.. وفشلت في السياسة الخارجية.. وفشلت في ردع العدوان الصهيوني - الذي كان سبب قيامها كما قالت - بل إنه في ظل هذه الانقلابات استقرت إسرائيل وبنت نفسها مدنيا وعسكريا، ووسعت رقعة احتلالها للأرض العربية.

ثم بعد أن استفحل الفساد والاستبداد والهزائم، وشاع البؤس والحرمان والكبت، ارتج الوطن العربي بانتفاضات شعبية: عرف أولها ولم يعرف آخرها.

فماذا بعد هذه الانتفاضات والثورات؟

هل ستتكرر أزمة ما بعد الاستقلال، أي أزمة غياب المنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بسبب فقدان الاجتهاد السياسي الناضج الراشد الخصيب في هذه الحقول؟

وإذا وقع ذلك، هل ستمشي المجتمعات العربية في طريق مسدود: كما حدث بعد الاستقلال؟

وما الضمانات ألا تتكرر أزمة ما بعد الاستقلال؟.. هل الضمان هو تبني الشكل الديمقراطي بمفهومه الغربي؟.. وإذا كان هذا هو الضمان، فما هي العواصم التي تعصم المجتمعات العربية من الانزلاق إلى صراع حزبي واسع ومرير ينشغل بنفسه ويغرق في تفاصيله، مهملا المصالح الحيوية والقضايا الرئيسية للشعوب والأوطان؟.. وإذا وصل الحال إلى هذا التأزم، فما الحل القادم؟.. هل الحل - أيضا - هو الانقلابات العسكرية التعسة؟

كما قلنا من قبل: ليست هذه دعوة إلى التخذيل والتيئيس.. فالأمة ليست في حاجة إلى المزيد من الإحباط والخذلان، إذ فيها من ذلك ما يكفيها ويزيد. وإنما هي دعوة إلى الاجتهاد الفكري السياسي المبدع الذي ينتهي بوضع رؤية استراتيجية سياسية اجتماعية حضارية تخرج المجتمعات من دوامة: ديمقراطية ثم انقلاب ثم ديمقراطية ثم انقلاب.. تخرجها من ذلك إلى فسحة استقرار حقيقي، وتنمية عميقة جادة شاملة، وحراك سياسي راشد ونزيه، وثقافة بناء ونهوض واستبشار لا ثقافة عجز ونواح وقنوط..

ومن مفاتح الاجتهاد المطلوب: الاجتهاد في استنباط صيغة سياسية جديدة تجمع - مثلا - بين العدالة الاجتماعية والاقتصاد الحر.. وبين حقوق الإنسان ومسؤولياته.. وبين الحرية والأمن.. وبين الوطنية والعالمية.. إلخ.