الخيارات الصعبة

TT

دخل العمل السياسي، بشأن المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، دائرة الخيارات الحرجة بالنسبة للجانبين، ولعل تأجيل اجتماع الرباعية الذي كان مقررا عقده في برلين وبضغط أميركي، يظهر حجم المأزق الذي لم يعد فلسطينيا - إسرائيليا بل تطور ليصبح أميركيا - أوروبيا كذلك.

ولم يعد خافيا، دور الإدارة الأميركية في الاندفاع المتسارع نحو هذا المأزق، من خلال استمرارها في معارضة التوجهات الأوروبية والروسية «الشركاء في الرباعية» لمصلحة اللاشيء السياسي الذي تجسده حكومة بنيامين نتنياهو، من خلال مواصلتها الاستيطان من جهة، وإحجامها عن تقديم أي مبادرات مقنعة، تساعد اللجنة الرباعية على المضي قدما في عملها، وفق مشجعات معقولة.

وهذا المأزق، الذي انعكست مظاهره بعجز الرباعية حتى عن مجرد الاجتماع، والاستماع إلى أفكار عامة من قبل الأمم المتحدة، كما كان مقررا في اجتماع برلين الملغى.. شجع الحكومة الإسرائيلية على توسيع هامش المناورة لديها، بحيث أصبحت طليقة اليد في تنفيذ سياساتها على الأرض الفلسطينية وخصوصا في القدس ومحيطها، إضافة إلى اطمئنانها المتجدد إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، لن تتوانى عن استخدام حق النقض، إذا ما نفذ الفلسطينيون تهديدهم بالحصول على اعتراف الأمم المتحدة بدولتهم المستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 67.

ولعل أدق تعبير عن الاستغلال الإسرائيلي لمأزق الرباعية، تلك التسريبات التي تصدر عن مكتب نتنياهو والتي تتضمن أقصى ما يستطيع رئيس الوزراء الإسرائيلي تقديمه في هذه المرحلة الحرجة بالذات، وهو انسحاب مظهري من بعض المناطق في الضفة، إلى جانب تسهيلات غير محددة لحركة المواطنين الفلسطينيين، مع إشارات على استعداد نتنياهو لاستبدال حصاره المباشر بحرا على غزة بحصار دولي يضمن نتائج الحصار ويعفي إسرائيل من أتعابه ومسؤولياته. غير أن الموقف الأميركي المتحرك بين حدي الفيتو الذي اتخذ والفيتو الذي سيتخذ، يواجه في حقيقة الأمر حرجا يصعب التغلب عليه أو حتى تجاوزه، مما سيؤثر حتما على الصورة الأميركية التي رغب أوباما في بداية عهده بإضفاء ألوان زاهية عليها بمقاييس العدالة وحقوق الإنسان وغيرها من الاعتبارات الأخلاقية التي وعدت في حينه بسياسة أميركية جديدة ربما يكون الحل السياسي المتوازن في الشرق الأوسط أحد نتائجها.

وإذا ما وضعنا في الاعتبار، الجو الجديد الذي أنتجته الشوارع العربية والاستثمار الأميركي المبالغ فيه دعائيا لها.. فإننا نضع أيدينا على مكمن الصعوبة في الموقف الأميركي وشدة حرجه، ليس أمام شعوب الشرق الأوسط فحسب، بل أمام شعوب العالم بأسره وفي مقدمتهم الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية.

أما الشق الآخر من المعادلة، والمتجسد في الجانب الفلسطيني والعربي، فإنه هو الآخر يواجه مأزق الاختيار في أمر الاتجاه الذي يتعين التركيز عليه خلال هذه المرحلة وحتى سبتمبر (أيلول) المقترب.. ذلك أن مواصلة التوجه نحو الأمم المتحدة وإن بدا في غاية المنطقية والعدالة أمام الاستعصاء التفاوضي مع إسرائيل، فإنه لن يكون خيارا سلسا بلا أثمان باهظة، وهنا يصبح ضروريا إجراء عملية حسابية واقعية للقوى وجدوى التحالفات والحدود التي ستبلغها خصوصا على الصعيد الدولي.

إن المراقبين يدركون أن الرغبة الأوروبية والروسية والعالمية عموما. في إيجاد حل متوازن للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، هي رغبة حقيقية ولا غبار عليها، إلا أن ما يظهر على المسرح السياسي هو عجز الرغبة عن التجسد في فاعلية سياسية؛ ففي مجلس الأمن يمكن إلغاء الدور الأوروبي بالفيتو الأميركي، وفي الرباعية يحدث ذات الشيء وبذات الذريعة، وهي: لا لزوم لأي جهد أوروبي أو أممي، إذ لا حل عمليا إلا من خلال التفاوض المباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين!

لقد منح الفلسطينيون والعرب الدبلوماسية الأميركية كل ما طلبت في الماضي من أجل عودة غير مشروطة للمفاوضات. فلقد حدث ذلك في لقاء واشنطن الشهير والفاشل، وحدث كذلك من خلال استجابات لجنة المتابعة العربية لطلبات أميركا تحت عنوان منح فرص جديدة أو متجددة لبذل جهود لإنقاذ المسار التفاوضي غير أن النتائج العملية لكل هذا التعاون كانت تصب واقعيا في مصلحة نتنياهو وسياساته الخطرة والاستفزازية والتي تعارضت على الدوام مع منطوق الموقف الأميركي ووراءه الأوروبي.

إن الفلسطينيين والعرب اختاروا عدم تجربة المجرب مرة أخرى.. والمجرب اثنان: الأول، الإذعان للرؤية الأميركية للعمل خارج نطاق الرباعية والأمم المتحدة، وذلك يعني وضعهم تحت سقف التفاهمات الأميركية - الإسرائيلية دون هوامش أخرى. والثاني، الاستمرار في التحدي والذهاب إلى الأمم المتحدة مع يقينهم بحتمية الحصول على ما يلزم من أصوات في الجمعية العامة، دون حصولهم على الأهم وهو اعتماد مجلس الأمن بفعل الفيتو الأميركي المتربص.

إن الخيار الأول (أي الأميركي) لو تم اعتماده فإنه يبدد المصداقية والفرص.

أما الثاني حيث لا مفر من مواصلة الحديث فيه والعمل من أجله فهو يظل أعزل عن دعم المؤثرين في هذا الأمر دون استبعاد الأثمان الباهظة التي لا بد أن تدفع.

إن الخيارات الفلسطينية والعربية، دائما حرجة وصعبة، وفي حالنا دائما ما يكون الخيار الأصح هو الأصعب. وليكن الله في العون على ما سيأتي.