الحكومة المصرية كلها في السجن.. لماذا؟

TT

تستطيع التعرف على أحداث التاريخ الكبرى بقراءة ما كتبه المؤرخون والباحثون على ما فيه من تضارب، أما عندما تعيش هذه الأحداث فالأمر مختلف، فالوقائع والأحداث تخرج ساخنة وملتهبة أحيانا من فرن التاريخ مباشرة، فتوضع أمامك أو تحيط بك، وربما تهددك بأن تدفن تحتها، انعطافات حادة، ومفارق طرق خلت من علامات المرور الإرشادية، ولا مؤرخ يغيثك، ولا باحث يعينك، لأن لحظات الحاضر لم تتحول إلى ماض بعد، هم جميعا مثلك يعيشون الصدمة والخوف والحيرة. وهنا تلجأ إلى مخزون المعرفة بداخلك، متواضعة كانت أو واسعة، باحثا عن مكانك على الخريطة، محاولا التعرف على مسار العاصفة لكي تحمي نفسك منها بالاختباء ولو داخل جلدك، السؤال يهب على عقلك وروحك كالإعصار؛ ما الأسباب التي أدت إلى دخول رئيس دولة وولديه وكل أفراد حكومته السجن؟

وأنا مهتم بالدولة وشؤون الحكم بوصفها فنا يماثل المسرح إبداعا، كتبت في ذلك ربما لمئات المرات تعرضت فيها لأخطاء الدولة ورجالها في مصر، وكثيرا ما ووجهت بمقولة من الصعب الرد عليها، وهي: حضرتك فنان مسرحي.. ماذا تفهم في السياسة؟

الواقع أنه عندما تتحول السياسة إلى فرع من فروع الجهل والبلادة، فبالتأكيد لا أفهم فيها وليس لي صلة بها. في هذا المقال لن أقدم لك الإجابة على السؤال: «ما الأسباب التي دفعت ملايين الشبان في مصر إلى الخروج من بيوتهم بهدف واحد وحيد هو إزالة النظام؟ ماذا كانت أخطاء الحكم من الناحية الفنية التي دفعت في قلوب الناس هذه الطاقة الهائلة من الكراهية والاحتقار؟».

لن أقدم لك الإجابة لأنني ببساطة لا أعرفها، وأحاول حتى الآن معرفتها، بمقدوري فقط أن أطرح عليك ما توصلت إليه؛ لا أعتقد أن الحكم، حكم مصر بالتحديد، أمر صعب أو شاق، بل لا أعتقد أن الحكم شاق في أي دولة، لم نسمع عن حاكم عادل مات من فرط الإجهاد، هو أو أحد أعوانه. غير أن الحكم ككل الفنون يتطلب المعرفة، والمعرفة ليست المعلومات، أجهزة أمن الدولة والمخابرات تستطيع إمدادك بالمعلومات، غير أن المعرفة تتطلب جهدا أعظم منك للوصول إلى ضفافها.

هناك سوء فهم عند الكثيرين في فهم طبيعة المعرفة، وربما يقضي الإنسان سنوات طويلة محاولا فهم جملة أرسطو أن «المعرفة هي الفضيلة، والجهل هو الرذيلة»؛ العاجز عن المعرفة إذن هو إنسان خاصمته الفضيلة، وبذلك تكون المعرفة هي قيم الإنسان العليا التي اكتشفها وحارب من أجلها لآلاف السنين، إنها الفضيلة التي نزل من أجلها الرسل والكتب السماوية، والتي من دونها لا يستحق الآدميون آدميتهم. إذا وافقنا أرسطو على أن المعرفة هي بذاتها الفضيلة، فلا بد أن نوافق على أن المعرفة عند رجل الدولة ليست ترفا، بل هي حتمية وأساس للحكم، وأنه في غيابها من المحتم أن يشعر الناس بالكراهية والاحتقار لرجل الدولة، ومن ثم الرغبة العارمة في إزالته حتى لو فقدوا حياتهم من أجل ذلك. كثيرون يعتقدون أن الكذب إحدى أدوات الحكم، وأرد عليهم، ربما كان ذلك صحيحا في عهود مضت، وحتى إذا كانت هذه المقولة صحيحة، فمن العبث أن يكون الكذب هو كل أدوات نظام ما. أمر مؤلم للغاية أن يعرف بعض الناس بعد أن يدخلوا السجن أو يصلوا إلى المنفى، أن الكذب هو مجرد أداة من أدوات الديكتاتورية التي لم يعد لها وجود، وأنه من الخطأ استخدام أداة عصر في العصر الذي يليه. إذا أردت البحث عن تسمية لهذا العصر الذي نعيشه فأنا أقترح عليك أن تسميه عصر زوال الديكتاتوريات، الفجة والناعمة. من المستحيل العثور على نظام حكم ديكتاتوري لا يستخدم الأكاذيب كأداة رئيسية لحكمه، وهو ما يحتم عليه استخدام كذابين جيدين كمساعدين له، وهؤلاء بدورهم يستخدمون المزيد من الكذابين كمساعدين لهم، أنت تعرف بالطبع تلك الجملة الشهيرة: «غابت الملائكة، فحضرت الشياطين»، وبالمثل نقول: «غاب الصدق فحضر الكذابون»، عندها تغيب شمس النظام، تماما كما تغيب شمس الأصيل. سأتناول معك كذبة صغيرة للغاية على سبيل العينة، وفي معامل التحليل، كما تعرف، لسنا مضطرين لتحليل مياه البحر كلها لكي نعرف مكونات مياهه وتأثيرها على البشر، تكفينا زجاجة صغيرة؛ صحيفة مصرية شهيرة منذ أعوام قليلة نشرت بحفاوة كبيرة قصة عن خبر جديد، وهو أن أحد الأمراء من أصدقاء الرئيس السابق أرسل له طردا به عدة كيلوغرامات من التمر الممتاز، ولكن الرئيس رفض تسلم الطرد بغير أن يدفع مبلغ الجمرك المفروض عليه، لست أذكر المبلغ، ولكنه عدة جنيهات مصرية بالطبع، ومع الموضوع تم نشر صورة وزير المالية وصورة بالزنكوغراف لإيصال المبلغ المدفوع لمصلحة الجمارك. قصة بلهاء لم يصدقها أحد بالطبع، غير أنها أسهمت مع جيش الأكاذيب الأخرى في شحن الناس بانفعالي الكراهية والاحتقار. عندما تطلب من الناس أن تصدق قصة بلهاء مثل هذه فأنت وبكل وضوح توجه لهم إهانة لا أحد يستطيع تحملها. يستطيع المصريون أن يعيشوا في فقر مدقع، يستطيعون تحمل شظف العيش مسلحين بالصبر والأمل، غير أنهم - كما أثبتوا - لا يتحملون الإهانة المتعمدة؛ لا يتحملون أن يتهمهم أحد بالغباء الشديد.

جريدة أخرى أكثر شهرة، نشرت صورة مفبركة للرئيس مبارك وهو يتقدم رؤساء العالم في مناسبة ما بعدة خطوات، وانكشفت حقيقة الصورة بعدها بعدة أيام، إنها الأكاذيب مرة أخرى، وكأنهم جميعا أقسموا عند تعيينهم أن يكذبوا وينصبوا على الناس دفاعا عن النظام.

لو أن الحكم كان مسلحا بالمعرفة لحاسب على الفور أصحاب تلك الفعلة الشنعاء، غير أنه لم يفعل. مثال آخر، مخبران أو شرطيان، قتلا شابا في الإسكندرية لأسباب لم تكشفها التحقيقات حتى الآن، وهو خالد سعيد، وكانت تلك الحادثة رافدا قويا من روافد الثورة؛ ترى ما هو الصعب في القبض على الشرطيين وتحويلهما إلى المحكمة عقب ارتكابهما لجريمتهما مباشرة؟! مرة أخرى إنه الاحتقار المبني على غياب المعرفة.. بعدها بدأ شلال الأكاذيب في الانهمار ضد الشاب المقتول في كل أدوات الإعلام الحكومي، لكي يزيد من إشعال نيران الكراهية والاحتقار في قلوب الناس.. ما زلت أبحث عن الإجابة.. أرجوك قلها لي لو كنت تعرفها.

ربما تتصور أن هاتين الواقعتين مجرد حادثتين فرديتين لا صلة لهما بآليات التفكير عند النظام ككل، وأنا أقول لك، من لديه القدرة على تأليف حكاية التمر وحدها بغير أن يحاسب أصحابها، ومن ارتكبها على الأقل بتهمة تزوير صورة الإيصال المنشور، هو شخص عاجز عن التعامل بصدق مع أي فعل.