مسلسل «الشهود الزور 2»

TT

«من شب على شيء شاب عليه» (من أمثال العرب)

تغيير العادات صعب.. لأن الطبع يغلب التطبع. وبالتالي، فمنظومة القيم المكتسبة عبر تنشئة استمرت لعقود يستحيل أن تتغير بين ليلة وضحاها.

أيضا، فإن تحويل الاسترضاء والمداهنة والتذلل والكلام المبطن، الذي يحتمل أكثر معنى، إلى نهج حياة يومية وفلسفة ممارسة سياسية قائمة بذاتها.. من الأمور التي تجعل من التغيير «من الداخل» تحديا عسيرا، إن لم يكن مستحيلا.

وبناء عليه، فليس مستغربا أبدا ما تحفل به وسائل الإعلام الرسمي في بعض الدول العربية التي تواجه انتفاضات شعبية، كسر فيها المواطن حاجز الخوف، وغدا «مشروع شهادة» في كل مرة يخرج فيها للمشاركة في مظاهرة.

مفردات جديدة طرأت على «قاموس» السياسة العربية منذ مطلع 2011، الذي تبشرنا الدبلوماسية الغربية بأنه «الربيع العربي» لا محالة. من أبرز هذه المفردات «البلطجية»، كما عرفوا في مصر واليمن، و«الشبيحة» في سورية، ناهيك بـ«المرتزقة» المحليين والمستوردين في ليبيا.

لكن استخدام كلمة «طرأت» هنا يفتقر إلى الدقة. فهؤلاء كانوا موجودين دائما.. كمخبرين مأجورين ورعاع مكلفين بالتجسس على طلبة الجامعات وملاحقتهم وإرهابهم، وتخريب تجمعات المثقفين والنقابيين المستقلين، وباختصار، مضايقة وقمع كل ذي فكر حر.

وقد يترقى نفر من هؤلاء، بعد إثباتهم كفاءاتهم ميدانيا، فيصبح هذا «زعيما مناضلا» أو «مثقفا منظرا».. وذاك «محللا سياسيا مستقلا» - التشديد هنا على «مستقلا» - يطل على شاشات النظام وغايته «تنوير» الشعب وإرشاده إلى ضرورة تصديق أجهزته الرسمية وحدها، مقابل تجاهل كل الإعلام العربي والعالمي على اعتبار أنه ضالع - والعياذ بالله - في مؤامرة تختلط فيها نعوت «الصهيونية» و«الصليبية» و«الإمبريالية» و«الأصولية القاعدية»(!).. هكذا، بقدرة قادر، دفعة واحدة!

فقط نوعية السلاح الذي يستعمله «البلطجية»، أو «الشبيحة»، تغيرت بحكم الظروف الطارئة، في حين بقي الدور المسند إليهم هو هو، وظل القمع لخدمة الحكم القائم هو الهدف الجوهري بلا تغيير يستحق الذكر.

بالأمس، تابعت إحدى المحطات التلفزيونية الرسمية لإحدى الدول التي تعيش انتفاضات شعبية ضد «جملوكياتها» (أو جمهورياتها الملكية) فتصورت لبرهة، لولا اللغة العربية المجلجلة التي تكلم بها ضيف الحلقة، أنني أمام تلفزيون «الفييتكونغ» أو «الباثيت لاو» إبان حربي فيتنام ولاوس.

فمن يسمعه يتصور أن لا هم ولا غم عند «كل» الإعلام العالمي إلا كسر صخرة النضال الذي دوخ إسرائيل وكاد يقطع دابر النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. وهذا، مع أن المحطة التلفزيونية ذاتها كانت قبل شهر ونيف تتحدث بحماسة منقطعة النظير عن التطور المثير والمرحب به في العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

غير أن الجانب المثير في موضوع الوضع في سورية، بالذات، هو توجيه الجهات الرسمية السورية عبر الإعلام تهمتي «التحريض» على الفتنة و«تمويلها» داخل سورية إلى أطراف لبنانية على خصومة سياسية مع الحكم الحالي في دمشق.

وبالطريقة المألوفة منذ سنين، بدأت «الاعترافات» والاتهامات تترى. مع العلم أن موضوع فصل السلطات في سورية، بما يعني استقلالية القضاء، لا يزال محاطا بعلامات استفهام كبيرة. فالاتهام أمني، والقوى السياسية التي تدفع باتجاهه أمنية، والإعلام الذي يروج له أيضا جزء لا يتجزأ من المنظومة الأمنية.

وبصرف النظر عما إذا كانت التهمتان صحيحتين أم لا، فإن ما يضعف من صدقيتهما شكل تعاطي الإعلام السوري الرسمي وامتداداته في لبنان، عبر «الدمى اللبنانية المتحركة» والوسائل الإعلامية الحزبية اللبنانية المرتبطة بمحور طهران – دمشق، منذ فترة غير قصيرة. وهذا التعاطي ينم عن أن الاتهام كان جاهزا أصلا ومعلبا مسبقا.

ثم إن الاتهام يقوم في الحقيقة على واقعين اثنين يستحيل فصل أحدهما عن الآخر:

- الأول هو الواقع الطائفي الفج، الذي يدفع لاتهام نسبة عالية من المسلمين السنة في لبنان بالنفخ في موقد الطائفية في سورية. وكان هذا الواقع - في الأساس - ما دفع كثرة كثيرة من اللبنانيين لاتهام دمشق باغتيال رفيق الحريري.

- والثاني هو أن الحكم السوري لم يتقبل حتى هذه اللحظة إمكانية أن يكون لبنان مستقلا عن سورية. وبالتالي، فإن استخفاف دمشق بمسألة سيادة لبنان والتعامل معه على أنه تابع يتيحان لها، ساعة تشاء، تهديده مباشرة أو مواربة. وهنا يجب التذكير بأن القوى الدينية النافذة سياسيا وماليا وعسكريا في لبنان اليوم ليست القوى المناوئة لدمشق، بل الجماعات المتحالفة معها. ودمشق تعرف أن الجهات التي تتهمها بالتحريض والتمويل ليست قوى «أصولية سنية»، لكنها في حين تستطيع أن تهدد لبنان، لا يمكنها مواجهة الحكم «الإسلامي السني» في تركيا، وهذا، على الرغم من اعتراضه الطائرات الآتية إليها من إيران لتفتيشها.

ثم إن موضوع الإتيان بشهود زور «تحت الطلب» مسألة يعرفها اللبنانيون والسوريون جيدا، وخبروها فعليا في الماضي غير البعيد. ولا أدل عليها من أولئك الذين يوصفون بـ«الشهود الزور» في قضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.

كل هؤلاء تقريبا كانوا من المرتبطين حاضرا أو ماضيا بمؤسسة أمنية واحدة، وكانت مهمة معظمهم التضليل المتعمد للتحقيق الدولي تمهيدا لإفشاله ونسفه.

واليوم، عبر مسلسل «الشهود الزور 2» يستخدم الأسلوب نفسه.. وضد الغريم السياسي نفسه.