هي ثورة.. لكنها لا تحكم!

TT

حين قرر الرئيس السابق حسني مبارك، أن يوجه كلمة إلى المصريين، من خلال قناة «العربية» الأسبوع الماضي، بدا في جانب من الكلمة وكأنه لا يزال رئيسا للدولة، خصوصا في ذلك الجانب الذي خاطب فيه 85 مليونا على أرض مصر، وهو يقول: «أيها الإخوة والأخوات».. فهذه العبارة كانت من العبارات المفضلة لديه، عندما كان يخاطب مواطنيه، على مدى 30 عاما قضاها في الحكم!

وسواء كان «مبارك» يقصدها، أو لا يقصدها، فإن الكلمة حين فاجأت كل مصري جعلت الجميع يتساءلون، بينهم وبين أنفسهم، تارة، وعلى مسمع من الآخرين، تارة أخرى، عما إذا كانت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) تحكم، بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر على قيامها، أم أنها لا تزال خارج الحكم، بل بعيدة عنه، ويمكن القول، من دون مبالغة، إنها لن تحكم بشكل مباشر، في المستقبل القريب ولا البعيد، ليس عن موقف ضدها بالطبع، وإنما لأنها كانت ولا تزال ثورة فريدة من نوعها حقا، كما سوف نرى حالا.

وإذا قررنا أن نقارن من هذه الزاوية بينها وبين ثورة يوليو (تموز)، التي هي الأقرب إليها، فسوف نكتشف عند اللحظة الأولى أن ثورة 1952 حكمت بشكل مباشر، فور قيامها، في الوقت الذي قامت فيه ثورة 2011، ولم تحكم إلى اليوم، وليس من المتوقع أن تحكم - على طريقة ثورة 1952 - في الأمد المنظور، ولا غير المنظور!

والسؤال هو: لماذا؟!.. وسوف يكون الجواب أن هناك سببين أساسيين وراء ابتعاد ثورة 2011 عن الحكم، وبقائها في الشارع عموما، وميدان التحرير خصوصا، إذا ما قامت مقارنة بينها وبين تلك الثورة الأخرى في حياة الشعب نفسه!..

السبب الأول: أن ثورة 1952 قامت على نظام الحكم الذي كان قبلها، وأنهت وجوده في ساعات، وتسلمت هي البلد، وراحت ترتب لما تراه من خطوات الحكم.. ويكفي مثلا أن نتذكر أن ثورة 1952 قامت على يد ضباط الجيش يوم الاثنين 23 يوليو، وأن الملك فاروق غادر البلاد، متنازلا عن الحكم يوم السبت 26 يوليو، لتنتهي تماما مرحلة ما قبل الثورة، وتبدأ في الوقت ذاته، مرحلة ما بعدها.

في 2011، قامت ثورة في الشارع، وكانت لها مطالب تصاعدت يوما بعد يوم، وهي مطالب بدأت بإصلاحات هنا وهناك، على مستوى الأجور والأسعار وغيرهما، ثم تدرجت إلى أن بلغت درجة صممت معها على تخلي الرئيس عن منصب رئيس الجمهورية، وهو ما حدث بالفعل يوم 11 فبراير (شباط)، أي بعد قيام الثورة بـ18 يوما!

بعدها.. وجدت ثورة 2011 نفسها في الشارع، حيث قامت منذ البداية، واكتشفت أن مطالبها، أو بمعنى أدق بقية مطالبها، في أيدي شبابها، بينما القدرة على وضع هذه المطالب على الأرض، وتحقيقها، مسألة في أيد أخرى، هي أيدي النظام الحاكم ذاته، الذي كان مبارك يستقر على القمة فيه!

في عام 1952، كان 12 ضابطا، هم أعضاء مجلس قيادة الثورة، قد استولوا على الحكم، ونقلوا الدولة بكاملها إلى أيديهم، وبدأوا يتصرفون على هذا الأساس، وكانوا بالتالي أحرارا تماما في الحركة.. لكن في عام 2011، كان على الشباب الذين قاموا بالثورة، ومعهم سائر أفراد الشعب، أن يعرضوا مطالبهم على الذين في أيديهم الحكم، وأن ينتظروا حتى يمكن الاستجابة لها، أو بعضها، وهذا هو الحاصل الآن فعلا، وسوف يظل يحصل، لأن الذين قاموا بالثورة شيء، بينما الذين يحكمون شيء آخر، وبينهما مسافة طويلة، ومساحة كبيرة.

في الحالة الأولى كنا أمام ثورة على الحكم، انتهت بالاستيلاء عليه، وفي الحالة الثانية كنا، ولا نزال طبعا، أمام ثورة في مواجهة الحكم، لكنها لم تفكر في الاستيلاء عليه كاملا، ولو فكرت ما استطاعت، لأنها لا تملك بحكم بطبيعتها، ما يجعلها قادرة على تحقيق هذه الخطوة، وليس أمامها، والحال كذلك، إلا أن تعرض مطالبها، ثم تضغط في سبيل تحقيقها، ثم تنتظر!

أما السبب الثاني الذي جعل ثورة 1952 تحكم، من أول لحظة، ولم يجعل الثانية تحكم، منذ اللحظة الأولى، ولا من اللحظة الألف، فهو أن الأخيرة تتصرف طول الوقت على طريقة الفارس الذي جاءت سيرته في قصة روسية قديمة.. ففي القصة كان إقطاعي روسي قديم قد قرر توزيع مساحات من الأراضي الواسعة التي كان يملكها على عدد من الفرسان، وكان يأتي بكل واحد منهم ويقول له ما معناه، إن عليه كفارس أن ينطلق بالحصان في مساحات الأرض الممتدة، وسوف تكون له كل المساحة التي يقطعها ذهابا وإيابا، مع شرط وحيد، هو أن يعود الفارس إلى نقطة الانطلاق قبل غروب الشمس، فإذا عاد بعدها بدقيقة واحدة، أو حتى بأقل منها، فليس له حق في سنتيمتر واحد من الأرض!.. وكان كل فارس ينطلق في اتجاه الأفق المفتوح، وكان يجري ويلهب ظهر الحصان، ليقطع المساحة الأكبر، وكان في هذه الأثناء يراعي أن يعود قبل الغروب.. إلا فارسا واحدا أراد أن يحصل على أكبر مساحة ممكنة، وراح يقطع ويقطع، ويدفع الحصان بأقصى سرعة أملا في أن يستحوذ على مسافة أطول في الذهاب والإياب.. لكنه لم ينتبه إلى أن الوقت يمكن أن يخونه، ويمكن أن يذهب بعيدا بعيدا، فإذا قرر أن يعود عاد بعد الغروب، وهو ما حدث فعلا، ليخسر كل شيء، وليكتشف عند الضرورة، أنه إذا كان مهما بالنسبة له أن يعرف كيف يذهب، فإن الأهم أن يضع حسابا للعودة، خصوصا أن كل مكسبه من الرحلة كلها مرهون بعودته في موعد محدد لا مجال للنقاش فيه!

هذه القصة بمعناها سوف تطوف في خاطرك، إذا ما تأملت مسيرة ثورة 2011، منذ قيامها إلى اليوم.. فمطالبها كثيرة، وهذا شيء لا غبار عليه، وهي مشروعة إلى جانب أنها كثيرة، وهي للمرة الثالثة ليست كمطالب محل جدل بين المؤمنين بها، كثورة، والمؤيدين لها على امتداد البلد بعرضه، وطوله، وبأبنائه على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم.

لكن.. ليس من الممكن أن يجري تجسيد مطالب الثورة كلها على الأرض، في دفعة واحدة، اليوم، أو غدا، وإنما لا بد، مادامت هذه هي طبيعتها كثورة، مقارنة بثورة 1952، أن يكون هناك جدول زمني متدرج، يضمن تحقيق مطلب وراء مطلب، ويضمن قطع خطوة إثر خطوة، وليس كل المطالب في توقيت واحد، ولا كل الخطوات في قفزة واحدة.

لم يكن شباب الثورة، حين قاموا بها في يومها الأول، طلاب سلطة، وليسوا طلاب سلطة، في ما يبدو، حتى اليوم.. لكنهم طلاب إصلاح، ومن شأن الإصلاح أن يكون عملية ممتدة الأجل، وطويلة النفس، لأنه إذا كان من السهل إسقاط نظام حكم، أو تغيير رئيس، فمن الصعب جدا، إقامة نظام في مكانه، أو حتى إصلاح القديم منه، وترميمه، ثم بث الحياة في أركانه.

وبطبيعة الحال، فإن القصة الروسية إياها إنما هي من خيال، ولم تقع في الأصل، لكنها بدأت وانتهت على الورق، ليظل معناها حيا بيننا مدى الحياة نفسها.. وفي المقابل، فإن ثورة 2011 ليست من خيال، وفرسانها لا يتحركون على ورق، كما كان فرسان القصة يفعلون، لكننا أمام قصة حقيقية، تمثلها الثورة بكل مشاهدها المتتابعة مشهدا وراء مشهد، وليس من الحكمة أن تكون نهاية الثورة في الواقع هي ذاتها نهاية القصة في الخيال، وإلا ما كانت هناك قيمة للتجربة، كحصيلة، في حياة الشعوب والأمم.