حوار الحضارات

TT

يبدو أن الحاجة إلى إقامة حوار بين الأديان باتت ماسة أكثر من ذي قبل. تخيل أننا نواجه هرما تاريخيا مكونا من عناصر أو أركان مهمة تشكل كلا من الجانب الداخلي والخارجي من هذا الهرم. تلعب ثلاثة أركان الدور الرئيسي في تكوين هذا البناء. وفي هذا الإطار إذا اعتبرنا أن الحضارة هي الهرم، فالثقافة هي روحه أو جوهره وجوهر الثقافة هي الروحانية. إن الدين هو التجسيد الرسمي للروحانية في مختلف الأمكنة والأزمنة. شهد الأسبوع الماضي حدثين استثنائيين في ولاية فلوريدا ومزار شريف وهما حرق تيري جونز، راعي كنيسة في فلوريدا، المصحف الشريف ثم قتل الأبرياء في مزار شريف في أفغانستان. كيف يمكننا فهم هذين الحدثين فهما صحيحا؟ كيف يمكننا تفسير هذه الأحداث المؤسفة المحزنة؟ والأهم من ذلك كيف يمكن ضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث الجنونية في المستقبل؟

من جانب يعتقد جونز أن الإسلام والقرآن يخدمان «العنف والقتل والإرهاب». على الجانب الآخر، ذهب بعض المسلمين بعد صلاة الجمعة إلى مكتب الأمم المتحدة في مزار شريف ودمروه وقتلوا الأبرياء وقُطع رأس اثنين.

فلنتخيل أننا من أسرة أو أصدقاء الضحايا، ماذا سيكون رأينا عن الإسلام والمسلمين؟ على الجانب الآخر، نحن نواجه موجة رهيبة من رهاب الإسلام في الولايات المتحدة أو الغرب. لقد تم حرق القرآن الكريم وعدم احترامه، فمن يمكن أن يقول بعدم وجود مشاعر عدوانية داخل نفوس المسلمين؟ ربما يكون قصر سبب ذلك على ظاهرة أو شخص ما تبسيطا مخلا للمشكلة. إن هذه الأحداث مثل أوراق الشجر أو فرع رقيق من شجرة ضخمة. لكن ما هي الجذور؟ ما هو السبب الرئيسي؟

على مدى العقود الماضية، سمعنا نظريتين؛ الأولى هي صدام الحضارات، والثانية هي حوار الحضارات. لكن يبدو لي أن الأهم هو التفكير في حوار الحضارات أو صدام الحضارات ووضع تعريف لكل منهما. وركز هانز كونغ، عالم اللاهوت الألماني الشهير، في كتابه الأخير «الإسلام: الماضي والحاضر والمستقبل» على هذا الأمر. فقد أوضح أفكاره بشكل رائع من خلال قوله: «لن يكون هناك سلام بين الدول إذا لم يكن هناك سلام بين الأديان. لا سلام بين الأديان دون حوار بين الأديان. لا حوار بين الأديان دون البحث في مبادئ الأديان».

في الوقت الحاضر، هناك شعور بالكره والموت في أفغانستان. لماذا في أفغانستان لا مصر أو إيران أو حتى المملكة العربية السعودية؟ فلنركز على ثلاثة أحداث في أفغانستان. الأول تم يوم الجمعة الأول من مارس (آذار) وهو هجوم المحتجين على مكاتب للأمم المتحدة في شمال أفغانستان نتيجة حرق نسخة من المصحف، مما أسفر عن مقتل الكثير، سبعة منهم من العاملين الأجانب في الأمم المتحدة. وقالت الشرطة الأفغانية إن ذلك الهجوم تم من قبل مئات المحتجين بعد الصلاة في مدينة مزار شريف التي تبعد كثيرا عن الأقاليم الجنوبية التي تسيطر عليها حركة طالبان.

الحدث الثاني هو مقتل عشرة أشخاص على الأقل وإصابة 83 في إقليم قندهار الجنوبي، بحسب تصريح مسؤولين يوم السبت الموافق الثاني من مارس في ثاني أيام الاحتجاجات العنيفة بسبب حرق مسيحي متطرف في الولايات المتحدة للمصحف الشريف.

الحدث الثالث هو الهجوم الانتحاري على قاعدة عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي في العاصمة الأفغانية كابل في اليوم التالي لهجوم المحتجين على بعثة الأمم المتحدة في مدينة مزار شريف، وهو ما أسفر عن مقتل سبعة من أفرادها. ويعد هذا أسوأ هجوم على الأمم المتحدة في أفغانستان. وحمل بعض المحتجين في قندهار أعلام طالبان البيضاء وهتفوا بشعارات مثل «تحيا حركة طالبان» و«الموت لأميركا». إذا أردنا أن نتلمس جذور هذه الأحداث الكارثية، يتعين علينا التفكير عن الأساس. ما هي الأفكار التي تشكل روح المسلم، والتي تبرر قتله لإنسان آخر؟ ما هو المكون المعرفي لسلوك جونز لحرق نسخة من المصحف الشريف؟ ليس تيري جونز الرجل الذي أحرق المصحف في العشرين من مارس وحده في حملة رهاب الإسلام في الولايات المتحدة، حيث يمكنه القول لأتباعه في كنيسة صغيرة في فلوريدا انظروا إلى أفغانستان، إن هذا هو الإسلام الذي يدعو إليه القرآن.

أريد أن أصف الكارثة من منظور مغاير. أولا دعوني أقول لتيري جونز وتلاميذه وأتباعه إنهم إذا قرأوا بعض آيات القرآن وهم يعتقدون سلفا أنها دليل على أن الإسلام دين عنف، يمكن لأي شخص أن يرى، أي شخص ذلك، في آيات مشابهة في العهد القديم مثل «طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (مزمور 137: 9). وكتب رينيه غيرارد مقالا عميقا عن العنف في قصص الإنجيل نشر في مجلة «الفلسفة والأدب» عام 1999 في الأعداد من 387 إلى 392. هناك عنف هائل في الإنجيل وعنف أكثر حيوية وإثارة في الأساطير وحتى في المآسي الإغريقية. إذا قارنا النصوص اليهودية بالوثنية، سنجد أن حجم العنف أكبر في الأولى عنه في الثانية. لا أريد أن أركز على هذا الموضوع، بل على العكس أعتقد أنه علينا علاج هذا المرض من منظور آخر. علينا أن نفكر في الدين سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية من منظور إنساني. نحن بحاجة إلى إصلاح حقيقي في دراسة الدين. من دون هذا الإصلاح، ستستمر الأحداث المريعة مثل تلك التي شاهدناها في فلوريدا وأفغانستان وفي كل مكان وزمان. قد تتغير أسماء الأماكن والأشخاص، لكن جوهرها يظل كما هو. وقد ركز نصر حامد أبو زيد في كتابه الأخير على هذه القضية، حيث كتب:

«التجديد حاجة دائمة سيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية من دونه تتجمد الحياة وتفقد رونقها وتدخل الثقافات نفق الاندثار والموت، ولكل تجديد سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي والفكري» (التجديد والتحريم والتأويل - ص2).

من دون إصلاح لن يكون هناك نور في نهاية النفق المظلم.