وجهان لعملة واحدة

TT

أعرف أن هذا موضوع يختلف فيه البعض، لكني قلت في السابق، وما زلت عند رأيي: إن الأجيال العربية المقبلة سوف تعجب من جيلنا العربي الحالي، إلى حد السخرية، بسبب سؤالهم الذي لن يجدوا له جوابا شافيا، ألا وهو: كيف استطاعت مثل هذه الشخصيات أن تحكم جزءا من العرب وتتصرف بهم كالممتلكات الشخصية طوال فترة حكمهم الطويل؟ أمامي شخصيتان، الأولى هي: صدام حسين، والثانية هي: معمر القذافي. إذا كان صدام حسين قد لقي جزاءه، إلا أنه ترك، بسبب سياسته الخرقاء، بلدا ممزقا وشعبا مشتتا وآلافا من الضحايا والثكالى، كما أضاع على بلاده فرصا لا تعد، كان يمكن أن تحقق نهضة حضارية أفضل بما لديها من موارد وإمكانات.

القذافي فعل ذلك ويفعله، لكن أوجه الشبه بين الشخصيتين كثيرة، تكاد تتطابق في الشكل والمضمون، على حدٍّ سواء.. فقد تابع العالم كيف قام صدام حسين بسحق مخالفيه من دون رحمة في عام 1991، الذين قاموا بانتفاضه ضد حكمه، والآن أمام العالم يستخدم القذافي أمضى الأسلحة الثقيلة ضد شعبه أيضا، تحت شعار إما أن أحكمكم وإما أن أقتلكم!

والتماثل يبدأ هناك ولا يتوقف؛ فقد ظهر القذافي مؤخرا في موكب سيارات مسرعة في بعض شوارع طرابلس، وقال إعلامه - الذي لا حول ولا قوة له - إنه بهذا يتحدى الغزو الغربي وطائرات حلف الأطلسي. يذكرنا ذلك بظهور صدام حسين المشابه في إحدى ساحات بغداد في أوائل أيام أبريل (نيسان) عام 2003، وصعوده على ظهر سيارة بملابس عسكرية يلوح لمجموعة حوله أنه المنتصر، في تأكيد لمظهر المقاوم، حينها لم تكن القوات الدولية بعيدة عن وسط بغداد، بل كانت في مطار بغداد! في الأيام القليلة الماضية تحدث القذافي عن إطلاق الجن على الطائرات الدولية المغيرة على قواته، وكان صدام حسين قد قال عن الطائرة الشبح التي استخدمها الحلفاء: إنه حتى راعي الغنم يمكن أن يراها!

ربى القذافي عددا من أبنائه من أجل أن يخلفوه في وراثة ليبيا، وهم، أي الأبناء، لا مكان لهم في البناء الرسمي للدولة، هم فقط هناك كأبناء (القائد) يتحكمون في أرواح الشعب وأرزاقه، ويصرفون، بلا حساب ولا رحمة، أموال الشعب على شهواتهم ونزقهم، هم كمثل عدي وقصي، لكن أسماءهم من سيف الإسلام إلى سيف العرب، مرورا بهنيبعل!

أما ملابس القائد، فحدث ولا حرج؛ فهاهو القذافي مخزن لاستعراض للملابس الغريبة العجيبة، التي قد لا تعد ولا تحصى من الألوان والأشكال كلها، تذكرنا بما كان يفعله صدام أيضا في هذا الخصوص. مرة بملابس عربية، وأخرى بأجنبية، وثالثة كردية، إلا الريشة التي كان يضعها على قبعة غربية يختال بها! وأما «التكتك» (العربة الصغيرة) الذي ظهر به القذافي في أول أيام الانتفاضة ضده، فيذكرنا بركوب صدام حسين الحصان الأبيض شاهرا سيفه!

حقيقة الأمر أن مثل هذا النوع من التصرفات - حتى في الشكل الخارجي أو أيضا في التصرف السياسي - لا تجد أحدا من المقربين يلفت نظر (القائد الفذ) إلى أنها مضحكة، يتندر عليها العالم. القذافي ساق في هذه المظاهر إلى درجة فاقت الإحراج. من حراسة نسائية إلى حمل خيمته إلى عواصم العالم، إلى إجبار الآخرين على تقبيل يده حتى من قبل رئيس وزراء دولة غربية من المفروض أن تكون ديمقراطية، القصص كثيرة.

ما يتشابه فيه الشخصيتان أنهما أصرا أيضا على أن يكونا مؤلفين لروايات وقصص لا يستطيع أحد أن يفهم منها شيئا، ربما حتى من كتبها لهم! روايات وكتب وأقوال مرسلة يخضع لها الجميع وكأنها منزلة، وقد دبج بعض الكتاب العرب، لأمر غير عقلاني، المديح في هذه المؤلفات الفذة، وهي كلام فارغ لا معنى له، حتى ذهب بعض المحللين النفسيين إلى أن تلك المدبجات تصدر عن شخصيات مأزومة وممتلئة كآبة.

على صعيد آخر، فإن الدولة بكاملها، العراقية في السابق، والليبية في اللاحق، خضعت إلى أهواء تلك الشخصيتين المرتبكتين أو المهووستين أو ربما المريضتان بمرض العظمة، أجهزة الدولة كلها تسبِّح بعظمة القائد.

في حادثة في الثمانينات، كان قد طُلب مني كتابة موضوع عن حرب الخليج لمجلة تصدرها الجامعة العربية، هي مجلة «شؤون عربية»، فكتبت وجهة نظري في الموضوع ونشر، فسَّر السفير العراقي لدى تونس وقتها ما نشر بأنه نقد لاذع للنظام العراقي، وطالب السيد الشاذلي القليبي حينها - وكان أمينا عاما - بفصل رئيس التحرير الأستاذ مجدي حماد، الناصري المصري، وهو يعمل الآن في لبنان وبطلب إخراجي من مجموعة المستشارين للمجلة، وهدد وتوعد، ولأن الدولة العراقية وراء الطلب، ولأن الأمين العام لا يستطيع أن يرفضه، فقد حقق طلب السفير، وأصبح الصديق رئيس التحرير من دون عمل، كي يكتب السفير بدوره تقريرا لرؤسائه كيف انتصر للقيادة. وعلى مقلب آخر، أقيم معرض كاريكاتيري في الكويت لأحد الأصدقاء، رسم فيه - بين شخصيات أخرى - صورة للعقيد القذافي، فجاءني بعد أيام سفير الجمهورية العظمى لدى الكويت، وكان رجلا بسيطا ومهذبا، جاء يرتجف لأن طرابلس أخذت علما بأن هناك من استهزأ بالعقيد في معرض الكاريكاتير، قلت للسفير الطيب: ولكنك كنت في الافتتاح ولم أسمع منك شيئا أو احتجاجا. قال: لقد كتب أحد أعضاء السفارة، وهو من القسم الخاص (المخابرات)، تقريرا من وراء ظهري. وما كان مني إلا أن أستجيب للسفير المسكين حفاظا على حياته، فكتبت له الرسالة التي طلبها، بأنه لم يحضر إلى المعرض!! ترى بعد هذا التماثل هل يلقى العقيد القذافي ما لاقاه المشير صدام؟! الله أعلم.

آخر الكلام:

يترك أهله وبلاده ويسافر الصحافي الإيطالي المليء بالمثالية للدفاع عمَّا يعتقد، وهو أحقية القضية الفلسطينية وعدالتها، فيلقى حتفه مقتولا ببرود وبشاعة بأيدي من جاء لمساعدتهم. إن لم يلقَ من قتلوه عقابهم الصارم وفي أسرع وقت، فلن نلوم العالم إن غير رأيه عن المساندة؛ لأن قتلة الآمن لا يستحقون أن يدافع عنهم أحد.. حتى لو كانوا فلسطينيين.. هل وصلت الرسالة؟