إصلاح النظام أم تغييره؟

TT

مصر تتأرجح بين رؤيتين، رؤية «إصلاح النظام» السابق، وهي الرؤية التي بدأت تسود المشهد، والرؤية الثانية تهدف إلى «تغيير النظام» وهي الرؤية التي نادت بها الثورة في شعار «الشعب يريد تغيير النظام»، ولكن الكثيرين من أصحاب «عقلية البقالين» السياسية من الباحثين عن مكاسب ومصالح ضيقة يحاولون بيع الثورة بثمن بخس ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. أصحاب رؤية إصلاح النظام المدفوعون بالمصالح الضيقة لا يدركون أن هناك موجة ثانية للثورة، ليست موجة لهدم النسق الثاني للنظام وحسب بل إنها موجة ثورية بدأت تأخذ طابعا جهويا. فمنطقة الصعيد التي كانت تراقب الثورة بحذر، وهي على حق لأن الصعيد غالبا لا يأخذ شيئا من ثورات مصر، هذا الصعيد بدأ في الانضمام إلى الثورة الآن، وربما الثورة بالكاد وصلت الصعيد. وما مظاهرات محافظة قنا المحتجة على فرض محافظ عليها إلا بداية لثورة الصعيد، تلك المنطقة التي لعب الكثيرون بأقدارها منذ 1952 حتى الآن. في قنا الشعب لا يريد إصلاح النظام، بل يريد تغيير النظام. وموضوع قنا معقد لأن له بعده الطائفي المعروف الذي كان واضحا في أحداث نجع حمادي منذ عامين، وكذلك قطع أذن رجل مسيحي بواسطة السلفيين، وهي حادثة شهيرة الآن. وما قنا إلا بداية. لقد هدأ الأدرنالين المحرك للثورة في القاهرة، ورضي البعض بما أعطي لهم من مكاسب. مكاسب هي في الواقع لم تزد كثيرا عما أعطاهم إياه مبارك وعمر سليمان منذ 29 يناير (كانون الثاني)2011، فما زلنا نراوح فيما عرضه مبارك على لجنة الحكماء، ولكن الباحثين عن مكاسب صغيرة يحاولون ترويجه على أنه إنجاز، وهي رؤية الجماعة التي كان شعارها «الشعب يريد إصلاح النظام»، وهذا شعار يختلف جذريا عن رؤية الشعب الذي يريد «تغيييييير النظـــــــام».

يتجلى الفارق بين الرؤيتين (إصلاح النظام مقابل تغيير النظام) في محاكمة مبارك ورجاله؛ فالذين يريدون إصلاح النظام يتبعون في محاكمة مبارك ووزرائه قوانين قديمة لا تصلح لمحاسبة وزير خصوصا بعد خروجه من سلطته، هؤلاء لا يريدون محاكمة مبارك محاكمة سياسية، بل يريدونها محاكمة جنائية بذات الإجراءات القديمة، واللعبة في كل هذا هو أن معاقبة مبارك بقوانين جديدة تعني انهيار الدولة ونهاية القانون في البلد. هم أيضا يريدون محاكمة جزء من النظام وليس النظام كله. عبقرية نظام مبارك هي أنه ورط الجميع في الفساد. لذلك نرى قلة ممن يدمنون الظهور على الشاشات يتحدثون عن محاكمة النظام، بل يكتفون بمحاكمة الخمسة أو العشرة الكبار، ومن خلال جهاز الكسب غير المشروع، رغم أن جهاز الكسب غير المشروع لا يتبع القضاء، فهو يتبع السلطة التنفيذية، يتبع وزير العدل المعين من قبل السلطة التنفيذية، إذن القضية لعبة وليست قضاء كما يشاع ويروج في الإعلام المصري. المروجون لما يحدث على أنه محاكمات، هم من أقصدهم بجماعة الإصلاح. أما جماعة الثورة فهم من يريدون محاكمة النظام كله وتغييره. فتغيير النظام يعني تغيير المنظومة القيمية الحاكمة للمجتمع، يعني تغيير الدستور وتغيير القوانين.

إن تبعات أصحاب دعوى إصلاح النظام التي بدأت تهيمن وتكاد تكون قد سرقت الثورة هي تبعات كثيرة وخطيرة. كل الإجراءات التي نراها اليوم في مصر لا تمت لتغيير النظام بصلة، ما نراه هو محاولات للالتفاف على الثورة ومصادرة مكاسبها من أجل منافع ضيقة.

الخطاب الإعلامي المصري لم يختلف قيد أنملة عن خطاب ما قبل الثورة، فلا أسماء تذكر، ولا حقائق ولا مواجهات، مجرد محاولات «لتظبيط» الشلل القديمة، وإعادة انتشارها كما تنتشر الجيوش بعد الهزائم في الميدان، نحن أمام حالة إعادة انتشار للجيوش الإعلامية المصرية، والتي تهدف جميعها في متوسطها الحسابي لإصلاح النظام لا تغييره. وهذا يتجلى خصوصا فيما يتعلق بالصندوق الأسود للإعلام المصري وهنا أعني صفوت الشريف الذي ما زال رغم الحبس يتحكم في سوق الإعلانات. فهناك حالة صمت عجيبة في الإعلام المصري الذي لا يذكره ولا يقترب منه.

إن لم تستطع الثورة فرض شروطها في الأسابيع القليلة القادمة، فإما ستكون مصر في مواجهة الموجة الثانية من الثورة والتي ستكون عنيفة وليست سلمية كما كان ينادي الشباب في الميدان، أو سنرى مواجهات طائفية ناتجة عن سيطرة الجماعات الدينية التي التحقت بالثورة في آخرها. إذا ما استطاعت قنا أن تفرض انتخاب المحافظ بدلا من تعيينه، فسنكون أمام استمرار الثورة، أما إذا فشلت قنا في فرض انتخاب المحافظ وليس مجرد تغييره، فنحن أمام انتصار لتيار جماعة إصلاح النظام على حساب الثورة وجماعة تغيير النظام.