الثورة تدخل الجامعات

TT

حينما كنت أتابع احتجاجات طلاب كلية العلوم في دمشق، والآداب في حلب، وانضمامهم للمطالبين بالإصلاح والتغيير، قلت في نفسي إن من حسن الحظ أني بدأت رحلة الكتابة الصحافية بالخوض في مواضيع التعليم العالي، وتحديدا دور وتأثير الجامعات؛ تطورها أو تخلفها، على المجتمع.

صحيح أن الشباب يدخلون الجامعات وهم في سن الثامنة عشرة، بعدما تشكلت الكثير من أفكارهم وسلوكياتهم وطبائعهم، ولكن لا شك أن الجامعات قادرة على تحوير كل ذلك وبنائه من جديد وفق معايير مختلفة، لأن الأساتذة الملقنين والمنظرين، والأنشطة الطلابية، وأجواء الاختلاط بالأفكار الأخرى، كل هذه مؤثرات تخلق قوالب جديدة للشخصية، حيث يحفز كل طالب زميله فتتكون تكتلات فعالة، وقد لا تكون بالضرورة إيجابية.

في اجتماع سابق مع الدكتور محمد العيسى، الملحق الثقافي في سفارة السعودية في واشنطن، تزامن مع ثورة 25 يناير المصرية، سألته: ما الذي يشغل 30 ألف طالب وطالبة سعوديين مبتعثين للولايات المتحدة خلافا لشؤونهم الدراسية؟ خاصة أن المبتعثين الأوائل في الستينات والسبعينات والثمانينات كانوا يتفاعلون مع المشهد السياسي والتحولات الفكرية في ذلك الوقت بكثير من الشد والجذب؛ كان بعضهم يحضر محاضرات وفعاليات القوميين أو اليساريين، سواء من باب الإعجاب أو الفضول، ويجاملون زملاء لهم في القاعة الدراسية ينتمون لدول أخرى في أنشطتهم الحزبية، وخرج الكثير منهم يهتفون احتفالا بسقوط شاه إيران؛ فهل مبتعثو الألفية الجديدة لديهم مثل هذه النزعات؟

أكد الملحق الثقافي أن الأمر لم يعد كذلك بالعموم، لم يعد للجيل الشبابي الجديد ميول سياسية أو آيديولوجية كالسابق، معلوماتهم ليست ضحلة في هذا الشأن، ولكن لا يسترعي انتباههم التركيز عليها. أصبحوا أكثر ميلا لبناء العلاقات الاجتماعية سواء الواقعية، أو الافتراضية من خلال التواصل الإلكتروني، وتنمية مهاراتهم في التعاطي مع التقنيات الحديثة، حتى إن معظم المشكلات التي تواجه الملحقية هي في الخلافات الزوجية بين المبتعثين وأزواجهم، التي تسعى الملحقية لحلها إذا اتخذت الشكاوى طابعا رسميا، وهي أمور متوقعة بالنسبة للكثرة العددية للمبتعثين.

كلام الدكتور العيسى صحيح، ولا يقتصر على طلابه في واشنطن، بل حتى على طلاب الرياض، وفي واقع الأمر فإن هذا التغير لم يمس السعوديين فقط، لأن المجتمعات تتوحد في اهتمامات شبابها، وإن اختلفت في التفاصيل الدقيقة.

طلاب العلوم والآداب في دمشق وحلب لم يخرجوا دفاعا عن عقيدة آيديولوجية، أو ولاء لشعارات فكرية، أو تلبية لدعوة حزبية، أو حبا في زعيم سياسي، كما كان حال طلاب الجامعات السورية في خمسينات وستينات القرن الماضي. الذي حرك هذه الجموع هو اعتراضهم على الحالة الاقتصادية والتنموية والقمع الجسدي والمعنوي، خرجوا ناقمين على أوضاعهم على الرغم من علمهم بأن نظام الدولة استخباراتي أمني لا يرحم، وعلمهم أن شخصيات ذات ثقل اجتماعي وثقافي اختفت من منازلها منذ سنوات لمجرد كتابة رسالة أو تعليق، وليس لاحتجاجات أو مظاهرات كما يحصل اليوم، ولكن درجة حرارة الاحتقان كانت أكبر من أن تُحتمل.

كالحال في مصر، فتحت ثورة الشباب أبواب الفضائيات العربية المغمورة لظهور رؤساء أحزاب سياسية معارضة لم يكن أحد يعبأ بهم، أو يرغب في استضافتهم، على الرغم من أنهم يعارضون النظام منذ عقود، فنفضت الغبار عنهم وظهروا على شاشاتها مشاركين في نتيجة الثورة، وهم الذين عجزوا طوال عمر عملهم أن يكونوا سببا لها.

أتمنى على الأقل أن لا يصدق الرئيس بشار الأسد الرواية التي اختلقتها أجهزته الأمنية حول عوامل خارجية تحرك الشارع السوري، كالصهاينة أو أميركا أو شخصيات عربية على خلاف مع النظام السوري، فالزمن عفّى على هذه الروايات، كما أنها وصفة مجربة وفاشلة في دول عربية تعيش حالة الثورة حاليا. على الرئيس السوري الذي لم يبتعد كثيرا في سنه عن عمر شباب دمشق ودرعا وبانياس وحلب الثائرين الذين فتحوا صدورهم للرصاص، أن يفتح هو بدوره نافذته ويستمع لصيحاتهم ومطالبهم، فكثير من هذه المطالب قد وعدهم بها وأرجأ تنفيذها.

لقد تماسك الشارع الجزائري أمام موجة الثورات العربية على الرغم من أن الجزائر كانت المرشحة الثالثة بعد تونس ومصر بحسب قانون «الدومينو» العربي، بسبب أن الحكومة سارعت بتنفيذ خطوات إجرائية إصلاحية امتصت غضب الشباب، كرفع حالة الطوارئ وتحسين الأجور ودعم المواد الغذائية والعفو عن بعض المساجين ومنح الأراضي للزراعة، التي قدمتها الحكومة كدفعة أولى لإصلاحات موعودة أكبر، ينتظر الجمهور تنفيذها قبل أن يقرر الخروج الكبير.

إن الوصفة العلاجية ليست سرية، فالمسببات المرضية معروفة، والأعراض واضحة، المشكلة في سوء تقدير الأمور والمكابرة عن الاعتراف بالخطأ والتأخر في تصحيحه.

* جامعة الملك سعود