عسكرة الانتفاضة

TT

احتلال الانتفاضة. هذا هو الهدف الاستراتيجي للمؤسسة العسكرية العربية. المشروع السياسي هو عسكرة النظام القديم والانتفاضة معا. أقصد استيعاب القوى السياسية الجديدة والقديمة، في حزام تعايش ديمقراطي، فيما يحرك الجيش عصا «المايسترو» من وراء الستار، للحيلولة دون ابتلاع الحزب (القائد) للدولة مرة أخرى.

مع عولمة أميركا وأوروبا للديمقراطية المدنية، يصعب الانقلاب العسكري إلى حد الاستحالة. الجيوش العربية اليوم بلا آيديولوجيا. بلا سياسة. بلا طموح. ليس هناك ناصر. قاسم. عارف. شيشكلي. قذافي جديد. إنما هناك ضباط كبار بنياشين على الصدور. مع زهد في الظهور. لا صور. باستثناء صور متواضعة للمشير حسين طنطاوي (75 سنة) في غاية الطيبة القَلِقَة.

منذ النصر المنقوص في حرب أكتوبر (تشرين الأول)، تحول الجيش العربي إلى دولة ضمن الدولة. استقلالية شبه تامة في الموازنة. في التسليح. امتيازات مادية ترفيهية للعسكر الكبار والصغار. في حالة اللا سلم واللا حرب، تنتج المصانع الحربية سلعا مدنية وعسكرية. تُشَغِّل عشرات ألوف العمال...

هذه الدولة/ الثكنة تم تحييدها، بعدما أحكم النظام الرئاسي أمنه وسلامة سلطته، بتعددية مخابراتية هائلة. العسكر اليوم يستردون الاعتبار السياسي والشعبي. ولأن العسكر دولة مختبئة في كُمِّ الدولة، فقد كانت الحاجة منطقية وماسَّة لها، لضبط انتفاضة لم تستطع الاستيلاء على السلطة كثورة، ولمنع الفوضى بعد اهتزاز النظام، وفقدانه أذرعته الأمنية الأخطبوطية.

بل أظهر العسكر براعة غير متوقعة، في فن السياسة، فن المساومة والتسوية مع الانتفاضة. وفي الحوار مع القوى المدنية القديمة: النظام. الأحزاب. التنظيمات الدينية، بحيث حالوا دون الاشتباك داخل قوى الانتفاضة، وبينها وبين هذه القوى القديمة.

المساومة اقتضت صرف رئيسين عربيين من الخدمة. هناك رؤساء آخرون مرشحون للصرف بشكل أو بآخر. التسوية اقتضت الإفراج عن المعتقلين، بمن فيهم «الجهاديون» التائبون أو النائمون في السجون. وسن قوانين جديدة للأحزاب والانتخاب. وتسريح وتشكيل حكومات. ثم الهيمنة على الصحافة الرسمية.

«الأهرام» تغصّ، ومعها شيخ الأزهر. وعمرو موسى. وأقطاب الإخوان، بالدعاء للمجلس العسكري الأعلى، بالتوفيق والنجاح.

في مناورات الشد والجذب، شعرت القوى الشبابية الجديدة بالمهانة. راح الصراخ المنطلق من ميدان التحرير، يتهم العسكر بالانحياز للقوى القديمة. في المبالغة، طالبت الانتفاضة بتنحية المشير طنطاوي، مصرةً على تشكيل مجلس رئاسي مدني، وحل المجلس العسكري. ومحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك، ووزراء حكومة «البزنس».

ضاق العسكر بالمزايدات. المبالغات. بالانفلات الأمني. باعتصامات العمال والعاملين الحكوميين (ثمانية ملايين عامل وموظف). فَسُنّتْ قوانين ضد الاعتصام. التجمهر. تعطيل الإنتاج. جرت محاكمات عسكرية. صدرت أحكام. سقط قتلى وجرحى...

صمود الانتفاضة. وعودتها إلى الاعتصام بالميادين، فرضا على العسكر تقديم تنازلات جديدة: اعتقال مبارك ونجليه. ورجال ووزراء البزنس. ولم يعرف، بعد، ما إذا كانت الانتفاضة قبلت التسوية الجديدة. فالعسكر ما زالوا يرفضون التخلي عن السلطة. وتشكيل مجلس رئاسي مدني. وإلغاء قانون الطوارئ. ورتَّبوا الفترة الانتقالية، على أساس إجراء انتخابات أولا، قد تسفر عن سيطرة القوى المحافظة والدينية، ودستور لا يضمن تماما الحريات الشخصية والسياسية، للمرأة والأقباط. ثم يجري انتخاب الرئيس الجديد المتوقع أن يكون خلاصة تُتَرْجِمُ هذه القوى.

في مأساة مبارك - آمل أن تسمح لي الحريات الجديدة بإبداء رأي شخصي - نعم، للرئيس السابق أخطاء وسلبيات معروفة. لكن له إنجازات باهرة مَنْسِيَّة. في مقدمتها، الإفراج عن معتقلي السادات. عودة مصر إلى العرب. تأمين مصر ضد العنف الديني. علاقته العربية سهَّلت عمل ملايين المصريين في الخليج. وليبيا. العراق. الأردن... بالإضافة إلى دور عسكري، كقائد لسلاح الجو خلال الحرب.

لا أدافع عن الأخطاء، لأشيد بالإنجازات. إنما أقول إن مبارك ليس صدام. ولا القذافي. ولا حتى السادات. حماية رئيس سابق، بسنِّه ومكانته، هي حماية للتقليد العربي في العفو والتسامح عند المقدرة.

كان مبارك أبا. وأخا. وراعيا لكل أعضاء المجلس العسكري. كانت الحكمة المتعقلة التي أظهرها المجلس منذ الانتفاضة، تقضي بتأجيل قضية مبارك ليتعامل معها رئيس جديد. ونظام جديد. تماما، كما سمح النظام الأميركي للرئيس جيرالد فورد بالعفو عن سلفه نيكسون بعد استقالته. وكما حِيلَ دون محاكمة الرئيس كلينتون، بعد فضيحة جنسية مدوية. بل ها هو الرئيس أوباما يرفض جر سلفه بوش إلى المحاكم، بتهمة توريط أميركا في حربين عبثيتين.

العسكرة المصرية للنظام وللانتفاضة لها استثناءات عربية. عسكر القذافي الانتفاضة الليبية السلمية، بمواجهتها بالسلاح. العسكرة القذافية أدت إلى عسكرة دولية: تدخل أميركا. أوروبا. حلف الناتو... لحماية الانتفاضة جوا. وبرا. وبحرا.

إنزال النظام السوري لجيشه ضد الانتفاضة الشعبية اقتداء خاطئ بالقذافي. عسكرة الانتفاضة بحصارها. تجويعها. قنصها، ستؤدي إلى حملها السلاح. والاشتباك مع النظام في حرب طائفية. من حسن حظ الرئيس بشار أن أميركا وأوروبا مشغولتان عن خطئه، بالتعامل أولا مع خطأ القذافي. لعل بشار وقادة الجيش والأمن يجلسون أمام التلفزيون مع جارهم حسن حزب الله، ليشاهدوا كيف يتم، بسهولة عبر ضغط الأزرار، تدمير القواعد الصاروخية والدفينة ومراكز الاتصال الليبية.

كانت عسكرة الانتفاضة في البحرين محتَّمة، بعد محاولة الشيعة شل الإدارة. الحكومة، والقطاع المصرفي والاقتصادي، بمنع العاملين من التوجه إلى مراكز عملهم. قوات «درع الجزيرة» التي تدخلت في البحرين لم تتعرض مباشرة للانتفاضة. اقتصرت عملياتها على حماية المباني والمؤسسات العامة، لتتولى «قوة دفاع البحرين» الصغيرة، «عسكرة» الانتفاضة الطائفية، بتحييد خطرها.

كان التحرك السعودي بمثابة تحذير للمرجعيتين؛ الإيرانية والعراقية، من مواصلة التدخل التحريضي في البحرين.

عروبة هذه الجزيرة خط خليجي وقومي أحمر. لا يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي السماح بتحويل البحرين إلى «محمية» إيرانية. إلى لبنان آخر، تماما حيث حول «حزب الله» هذا البلد العربي الصغير إلى «محمية» إيرانية مسلحة، وحيث باتت دولة الطائفة تتحكم بديمقراطية دولة الطوائف.

في اليمن، الرئيس اليمني على خُطى القذافي. عسكر علي عبد الله صالح الانتفاضة. قاومها بالسلاح. بالقنص. بالمناورة السياسية. فقسم الجيش. معه الحرس الجمهوري والقوات الخاصة المدربة جيدا. ضده الشمال. والوسط. والجنوب. والألوية التي قاتلت الحوثيين.

يبقى خوفي على الفلسطينيين. لعلهم تعلموا الدرس والعبرة من التدخل في الأردن. لبنان. العراق، كي لا يمارسوا الاصطفاف والعسكرة وراء النظام في سورية ضد الانتفاضة. خوفي من عسكرة سنة لبنان، كي لا تحرق أصابعها بالتدخل، إظهارا لحسن النية تجاه سنة سورية.