وهل سورية غير؟!

TT

في لبنان، بالنسبة لحزب الله وكل القوى والشخصيات الموالية للنظام الحاكم في دمشق، فإن ما يجري هذه الأيام من تحركات شعبية احتجاجية ليس إلا مؤامرة ضد «سورية الأسد» ودمشق الممانعة، وكل صرخات أهالي درعا وهبات الساحل السوري في اللاذقية وبانياس وطرطوس والشرق السوري في القامشلي وبلاد الجزيرة الفراتية، بل حتى في إحدى أعرق الحواضر في بلاد الشام، حمص، كل هذه الهبات لدى أتباع وحلفاء سورية في إيران ليست إلا مؤامرة «صهيوأميركية» ضد نظام الرئيس المقاوم بشار الأسد.

قال هذا الكلام هذه الأيام كثيرون في لبنان، منهم طلال أرسلان، الحليف الدرزي اللبناني لبشار الأسد، وقاله وزير حزب الله ونائبه، محمد فنيش، ويقوله آخرون من هذا الطراز.

العجيب أن حلفاء وأتباع سورية في لبنان، وعلى رأسهم حزب الله، والآن وليد جنبلاط، كانوا قد حيوا الثورة المصرية والتونسية والليبية، وكالوا لها عبارات المديح الطهراني، وبلغوا بها عنان السماء، لأن هذه الشعوب ثارت على «الطغاة والعملاء» من الحكام، وحينما وصل الإعصار إلى سورية، غيروا الأقنعة وبدلوا اللغة، وقذفوا بالقاموس الثوري الطهراني واستحضروا لغة الاصطفاف والولاء خلف النظام الحاكم في دمشق، وكأن الشعب السوري ليس إلا آلات صماء تكرر ما يقوله الإعلام السوري القديم أو أتباع سورية في لبنان!

نفس هذا التناقض والكيل بمكيالين وقعت فيه إيران الخمينية، ولذلك سار على هديها حزبها في لبنان، وتحدث أكثر من مسؤول إيراني عن أن ما يجري في سورية ليس ثورة شعوب، بل دسيسة صهيونية - أميركية... إلى آخر هذه الأسطوانة.

وحتى «بعض» الإخوان المسلمين، لم ينسوا أن ينثروا الشكوك في وجود مؤامرة دولة تستهدف النظام المقاوم في دمشق، مع أنهم قالوا إنهم ضد ظلم الشعب السوري وقهره.

كل هذا يعني أمرا واحدا، هو أن كل جهة أو قوة أو دولة ما، بل حتى كل فرد مجرد، يحدد موقفه من هذه الثورة أو تلك، من هذا الحدث أو ذاك، طبقا لمصالحه، ووفقا لعقائده الخاصة، وهو يحاول دوما تكييف الحدث مع تحليله الخاص وسوق مجرى الأمور إلى ساقية مصالحه. صحيح أن هذه الدول أو تلك القوى أو هؤلاء الأفراد لن يصرحوا تماما بانحيازهم لمصالحهم الفجة، بل ربما يتصرف الفرد أو حتى بعض القوى بشكل مثالي يتوهم، هو، أنه طاهر الدوافع، ولكنه لو تأمل أكثر سيجد أن المصالح، بالتعريف الواسع لها، هي الحافز الأول لتصرفات البشر.

هذا الأمر يخص كل البشر، وليس العرب أو المسلمين فقط، فمثلا، لماذا بادرت فرنسا دون هوادة، إلى شن الحرب على نظام القذافي، وتحالفت معها أميركا وقوات الناتو وبعض الدول العربية، بدعوى حماية المدنيين الليبيين، ولم يبادر هذا التحالف «الإنساني» إلى فعل نفس الشيء لصالح المدنيين السوريين الذين تتحدث بعض التقارير عن أن خسائرهم البشرية أكبر من الليبيين، بحساب النسبة والتناسب وبحساب أن المحتجين السوريين ليسوا تشكيلات مقاتلة، مثل الجانب الليبي؟

والسبب واضح، أو هكذا يرى البعض، فليبيا بها البترول «الحلو» الخفيف، ولديها أطول شاطئ على المتوسط، ويأتي منها الجراد الأفريقي البشري المهاجر، وهذه الشواطئ على مرمى حجر من عرائس البحر المتوسط في الجنوب الأوروبي.

التبرير الإنساني للحروب ليس تبريرا كاذبا في كل حال، خصوصا لدى الغرب، بالذات أميركا، ولست ممن يرون أن الدافع الإنساني والأخلاقي غير مؤثر في مجرى التاريخ أو اتخاذ القرارات الكبرى، ولكن غلط ما نراه الآن من مقاربات تكاد تحصر الدافع العالمي والدولي في مناجزة القذافي في ليبيا بالسبب الإنساني، في حين أننا نرى «خجلا» دوليا واضحا في تناول الأزمة السورية، وكأن الجميع محرج من اتخاذ نفس الموقف الحاد هذا.

لا يتمنى المرء العاقل طبعا الحرب والفتن في أي بلد في منطقتنا، بالذات البلدان العربية، لأنه إذا انتشرت الفوضى في بلد بجوارك، فحتما ستصل إليك أو يصل إليك بعض من شواظها وشررها، ولكن من المهم جدا هنا الإشارة إلى مفارقة عجيبة هي:

إسرائيل نفسها، حسب بعض التقارير، قد أبدت قلقها البالغ من التطورات الأخيرة في سورية، على الرغم من أن السياسة السورية الأسدية، خصوصا في تحالفها مع إيران كانت مزعجة لإسرائيل، ولكنه إزعاج يمكن التعايش معه، فقصارى ما ينال إسرائيل من مجمل السياسات السورية «المقاومة» لبشار الأسد، هي الكثير من الخطب والشتائم، ومن حين لآخر مناوشات لحزب الله، أو حماس، يتم نفخها دعائيا عبر الآلات الإعلامية للحزب الإلهي أو الدائرين في فلكه أو فلك حماس، وكفى الله المؤمنين القتال، لكن هناك نوعا من الخطر الداهم الذي من الممكن أن يأتي من تغيير النظام في دمشق، أن يأتي نظام عروبي يمثل الأغلبية، على غرار عبد الناصر في مصر، هنا تصبح الطامة الكبرى على إسرائيل، ولذلك فهي تفضل بقاء نظام الأسد في سورية، ليس من باب حب النظام السوري، بل هي تكرهه، ولكن من باب التقدير المنفعي للأمور وتحديد درجات ومستويات الخطورة.

من هنا تصبح المفارقة فاقعة في التوافق العام في الحفاظ على النظام الأسدي بين طهران وتل أبيب، وأصوات إسرائيل في الغرب وأصوات إيران في الشرق!

مرة أخرى، القصة أبعد ما تكون عن المثالية الثورية التي صدعنا بها بعض مثقفينا العرب أو بعض الشباب الثائر، هذه الأيام، فهناك دوافع مصلحية كبيرة، للجميع دون استثناء، في خلق ما يحدث، أو توجيه مساره إذا حدث في اتجاه المصلحة المباشرة لهذا الطرف أو ذاك.

لو جرت ثورة شعبية في إيران الخمينية، يقوم بها، مثلا، عرب الأحواز أو البلوش أو الأكراد، أو حتى بعض القوى المدنية في طهران نفسها، لكان النظام السوري، وأكيد معه حزب الله أو المتضررون، سيصمون هذه الثورة الشعبية بالعمالة أو يتهمون الإعلام بالمبالغة أو يوجهون أصابع الاتهام، مثل العادة، إلى أميركا وإسرائيل.

الكفوف الإيرانية أو السورية أو اللبنانية التي صفقت لانهيار نظام مبارك في مصر أو بن علي في تونس أو تضعضع سلطة القذافي في ليبيا لم تصفق لأسباب إنسانية بحتة بل سياسية وآيديولوجية خالصة.

ومثلما فعلوا، فعل غيرهم أيضا تجاه هذه الثورات، ولكن في الجهة المعاكسة!

إذن لا براءة ولا طهارة ولا عفوية في هذه المواقف، مهما بولغ في نبرة النقاء.

المساكين فقط هم من يصدقون الكلام الظاهر، لذلك كان نصيبنا العربي سخيا من هذه المسكنة العقلية، لدى من يفترض أنهم أصحاب العقول!

[email protected]