نظام إقليمي عربي جديد

TT

عندما أنشئت جامعة الدول العربية لم يكن هناك سوى سبع دول عربية مستقلة فقط. وحتى هذه الدول كان على استقلالها شكوك قوية، فبعضها كان لا يزال محتلا بدولة أجنبية، والآخر كان واقعا في مناطق نفوذ. ومع ذلك جرى التفكير في طريق خاص للعرب يدور مؤسسيا حول الجامعة العربية، وفكريا حول اعتقاد بوجود رابطة متميزة بين الدول العربية تختلف عن روابطها الإقليمية الأخرى. ورغم الاختلافات الكثيرة بين الدول العربية، فقد كان لكل دولة أسبابها لكي تكون وسط هذه المجموعة من الدول، ورغم السخرية أحيانا، واللوم أحيانا أخرى، فقد بقيت الجامعة على حالها حتى ولو كانت تفاعلات أعضائها مع بعضهم ليست على ما يرام. وببساطة، وسواء كانت هناك إرادة سياسية أم لا، وجدت القيادات السياسية العربية أن الوجود في الجامعة يمثل شرعية ما.

الظن الآن أننا أمام نقطة تحول أو تغير بشكل أو آخر، فالثورة ملتهبة في دول عربية كثيرة. وربما لا يكون في ذلك جديد على العالم العربي الذي عرف الثورة واللغة الثورية لعقود طويلة، ولكن الجديد هذه المرة أن الثورة لا تأتي مصحوبة باحتلال الإذاعة وصدور البيان الأول، وإنما تأتي من الشوارع والميادين، صار بعضها مثل ميدان التحرير في مصر مزارات سياحية.

هنا تبدو القضية مختلفة عن كل ما سبق، فلا أحد رفع راية تحرير فلسطين لتبرير الثورة، ولا كانت هناك حركة تدعو إلى تحقيق الوحدة العربية، ولا كان هناك من يطالب بتغيير العالم وإسقاط القوى العظمى والكبرى.

الأمر المهم هنا أن القاطرة التي بدأت في تونس زحفت على مصر حيث جرى التغيير خاطفا وملتهبا ولكنه في كل الأحوال جرى. والآن ومهما طال الزمن، أسابيع أو شهور، فإننا لن نجد في سلطة البلدان العربية أيا من القادة معمر القذافي أو علي عبد الله صالح أو بشار الأسد. وبالتأكيد سوف يكون حولهم من يزينون لهم طريق البقاء بأنهم السد أمام الفوضى، والمانع من الحرب الأهلية، ولكن النهاية سوف تكون واحدة. ما فعله هؤلاء القادة ومن سبقوهم ومن سيلحق بهم سوف يقف يوما أمام محكمة التاريخ، فالأيام العصيبة تكون فيها الأحكام هوجاء والأبصار زائغة. ولكن ما لدينا هو موجة من الديمقراطيات الجديدة تشمل إقليما بأكمله؛ تماما مثل ذلك الذي اكتسح أميركا الجنوبية خلال الثمانينات، وأوروبا الشرقية خلال التسعينات، وشرق وجنوب شرقي آسيا خلال العقد الأول من القرن الحالي. الآن جاء العرب متأخرين، ولكنهم جاءوا على أية حال، ومن بقي منهم خارج التجربة لا يوجد ما يشغله الآن غير كيفية التعامل مع الموجة الثورية الديمقراطية، وعندما يبدأ التعامل سوف يكون قد وضع البذور الأولى للثورة.

الإقليم إذن تغير، وحتى لغته تغيرت أيضا، وكل من فيه يعلم، كما جرى في أقاليم أخرى، أن الأمر قد يستغرق العقد بأكمله، ولكن القصة برمتها تحتاج تفكيرا من الآن. وربما كانت الخطوة الأولى معروفة وجارية ولها علاقة بما يجري في اليمن وليبيا وسورية حيث الثورة مشتعلة والكفاح دوار. هنا فإن الخيارات ليست كثيرة، ومحاولة وقف «العنف» أي الثورة مقابل إصلاح يأتي من النظام القائم يبدو خيالا لا يقبله أحد. وبالمقابل فإن تصور استمرار الثورة حتى ولو هدمت البلاد فوق رأس أصحابها يبدو ثمنا فاحشا لأن من هم في السلطة ليسوا من المؤمنين بالحالة المصرية الوديعة التي يستسلم فيها الرئيس بعد ثمانية عشر يوما من الصدام والحوار ثم بعد ذلك يسلم نفسه لقضاة بلاده لكي يروا ما هم فاعلون بالقانون والعدالة.

الحل الوحيد من المعضلة هي فكرة «الخروج الآمن» للرؤساء الثلاثة كما فعل الروس مع بوريس يلتسين، وهو حل بالتأكيد ليس عادلا في نظر كثيرين، ولكن لا توجد عدالة أيضا في سقوط الآلاف من الضحايا. الجامعة العربية حاولت الاقتراب من ذلك في ليبيا، ومجلس التعاون الخليجي حاول ذلك مع اليمن، ولكن المحاولات لم تكن صريحة، ولم تجعل الصفقة مغرية، كما أن أيا منها لم يقترب من سورية التي بيدها استقرار المشرق العربي كله، وهى بوابة العراق، ومفتاح فلسطين، والنافذة الوحيدة للبنان وهي الجسر المهم مع تركيا وإيران.

ولكن ذلك خطوة أولى، ولا أدري هل توجد شجاعة لدى الدول العربية للذهاب إلى ما هو أبعد، ولكن التغييرات الجديدة سوف تخلق واقعا جديدا، ولا داعي أبدا أن يتحول ذلك إلى منازعات جديدة بين دول «ديمقراطية» وأخرى «رجعية»، فقد أضرت الحرب الباردة العربية خلال الستينات بجميع الأطراف، ولم يعد العالم على استعداد لتحملها مرة أخرى.

الجامعة العربية ذاتها على أبواب تحول جديد، ليس فقط لأنها سوف تنتخب أمينا عاما جديدا بعد أن نقل السيد عمرو موسى طموحاته من الساحة العربية إلى الساحة المصرية؛ ولكن، وربما كان في الأمر صدفة بحتة، لأن العصر قد تغير كما رأينا ولا بديل عن أن يكون الأمين العام الجديد قادرا على التعامل مع دنيا العرب الجديدة.

المهمة صعبة ولا شك، ولكن تجاوزها يحتاج فكرا جديدا، فلم يعد الفكر القومي العربي مناسبا لمقتضى الحال، ولا بات الفكر القطري بدوره كافيا للتعامل مع تحديات السوق السياسية والاقتصادية معا. وسواء أحببنا ذلك أو كرهناه فقد كانت الفضائيات التلفزيونية العربية مهما كانت الأقطار العربية التي تعمل لحسابها عاملا مستقلا يعمل بالصوت والصورة والجري وراء السبق الصحافي وفي الطريق يلهب الثورات ويشعل التحدي. وبين الفضائيات والصحف العربية كانت الصحافة الإلكترونية توجد سوقا سياسية واحدة لا تعرف حدودا ولا آفاقا. وفي وقت من الأوقات غير البعيدة كان كل ذلك يشحذ الاهتمام ساعة الانقسام حول مباريات كرة القدم، ولكن الأمر سرعان ما تحول إلى نقل خبرات التعامل مع الغازات المسيلة للدموع القادمة من السلطة التي آن أوان الإطاحة بها.

ربما تكون هذه رسالة مبكرة لما سوف يأتي ويطلب الاهتمام؛ فكثيرا ما سبقتنا الأحداث وآن أوان التعامل مع مستقبل لم يعد هناك بديل عنه.