أي مستقبل لجيل الثورات؟

TT

الثورات التي انطلقت من تونس ثم مصر، لتمتد وتتسع إلى بقاع أخرى في العالم العربي، وضعت الشباب على صدارة الأحداث، لأنهم كانوا وقودها وقوتها. وعندما تصدر دراسة اقتصادية في هذا الوقت لتشير إلى أن 25% من الشباب في العالم العربي عاطلون عن العمل، فإنها لا بد أن تستوقف المرء، وتدق نواقيس الخطر. ذلك أنها تعني أن نسبة كبيرة من طاقاتنا مهدرة أو معطلة، وأن مستقبلنا مهدد، لأن الشباب هم عماد مستقبل أي أمة تنظر إلى الأمام، وتبحث عن التقدم. وفي العالم العربي حيث يمثل الشباب دون سن الثلاثين أكثر من 60% من مجموع السكان (ثاني أعلى نسبة في العالم بعد أفريقيا جنوب الصحراء)، فإن معالجة هموم ومشكلات هذا الجيل تصبح قضية مصيرية.

الدراسة المذكورة وردت في إطار تقرير مشترك صدر الأسبوع الماضي عن مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، وعن البنك الإسلامي للتنمية، نشرت «الشرق الأوسط» أبرز معالمه في عددها الصادر يوم الخميس الماضي. وأشار التقرير إلى أن الدول العربية تتكبد 50 مليار دولار سنويا بسبب البطالة، كما حذر من أن الضغوط سترتفع خلال الأعوام القليلة المقبلة مع دخول أعداد جديدة من الشباب إلى سوق العمل، باحثين عن وظائف تؤمن لهم حياة كريمة ومستقبلا آمنا، وكانت النقطة البارزة في التقرير هي تشديده على أهمية التعليم والتدريب، على أساس أن الملايين من الشباب يعجزون عن الحصول على وظائف بسبب نوعية التعليم، وأن هناك حاجة ملحة لتحديث التعليم، ومواكبته مع احتياجات التنمية وسوق العمل.

الدول العربية تأتي في المرتبة قبل الأخيرة في جدول الإنفاق العالمي على التعليم، إذ يمثل ما تنفقه نسبة 3% من مجموع الإنفاق العالمي على التعليم، مقارنة بنسبة 55% للولايات المتحدة وأوروبا، و18% لآسيا، و8% لأميركا اللاتينية.

أما في مجال البحث العلمي، فإن إسرائيل تتقدم على العالم العربي كثيرا، بينما تنفق دولة مثل فنلندا مثلا عشرة أضعاف ما تنفقه الدول العربية على البحث العلمي إذا وضعنا عدد السكان كمقياس، علما بأن دول الخليج، خصوصا السعودية وقطر والإمارات، بدأت تعزز إنفاقها في هذا المجال الحيوي.

هذه الإحصائيات والتقارير ترسم صورة قاتمة للمستقبل، وتعكس حالة القلق في أوساط مجتمعاتنا، خصوصا في أوساط الشباب العربي الذي يشعر أن همومه واحتياجاته مغيبة، وأنه يواجه وضعا يائسا ومستقبلا غامضا. لذلك لم يكن غريبا أن تكون الشرارة الأولى للثورات هي إقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على الانتحار بعد مصادرة بضاعته وتدمير عربة بيع الخضار التي يعتاش منها في ظل ظروف الفقر وقلة فرص العمل. لكن ذلك لم يكن العامل الوحيد الذي دفع البوعزيزي إلى اليأس التام والانتحار بحرق نفسه أمام الملأ وفي ساحة عامة لكي يعبر عن احتجاجه على الظلم وانسداد الأفق. فقد كان البوعزيزي يشعر أيضا بالمهانة بعد أن صفعته شرطية عندما احتج على «نهب» ومصادرة بضاعته وهي مصدر رزقه الوحيد في ظل بطالة متفشية بين الشباب، كما أن كل محاولاته للاحتجاج لدى سلطات البلدية باءت بالفشل.

تداخلت إذن عوامل الفقر، والقانون المتسلط، والتسيب الإداري والفساد العام المستشري في أجهزة الحكم التي لا تأبه بالمواطن، لتدفع كلها البوعزيزي إلى خطوة الانتحار يأسا وقهرا. بعدها انطلقت الاحتجاجات في سيدي بوزيد ثم عمت تونس، ومنها إلى مصر، ثم إلى دول كثيرة في طول العالم العربي وعرضه. لكن قبل أن تشتد المظاهرات شهدنا عدة حالات انتحار على طريقة البوعزيزي في دول عربية أخرى لأناس ضاقت بهم سبل العيش، أو عانوا البطالة وفقدان الحقوق والأمل.

العامل الاقتصادي وحده لا يقدم تفسيرا للانتفاضات التي يشهدها العالم العربي، ولا يجب النظر إليه باعتباره الحل والمخرج الوحيد. فليبيا مثلا ليست بلدا فقيرا، لكن نظامها الأهوج القمعي، الذي ينظر إلى المواطنين «كجرذان» يمكن سحقهم، دمر البلد وأفقرها ودفع الناس إلى الثورة عليه من أجل الحقوق والكرامة. كذلك فإن تونس عندما انطلقت منها الثورة، كانت تعيش وضعا اقتصاديا أفضل من مصر، لكن الفساد الذي استشرى في ظل نظام زين العابدين بن علي استنزف البلد، مثلما أن القمع الشديد ولد إحساسا بالظلم والقهر جعل الناس تتبنى شعار «إسقاط» النظام، بعد خروجها في المظاهرات.

هناك عوامل كثيرة تتداخل ومن دونها تبقى الصورة ناقصة والحلول مبتورة. وتحليل ظاهرة الثورات الراهنة سيتطلب من الباحثين النظر في مختلف العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تضافرت وأدت إلى انفجار الأوضاع. صحيح أن الأسباب قد تتفاوت ما بين بلد وآخر، كما أن وصفة الحلول قد تختلف حسب ظروف كل مجتمع، لكن يبقى أن هناك إجماعا على أن الأوضاع في العالم العربي تحتاج إلى إصلاح، ولم يعد ممكنا بقاء الأمور على ما كانت عليه. أما الشباب الذي فجر الثورات في عدد من الدول فهو يريد حتما مستقبلا أفضل، وحياة كريمة، تتوفر فيها فرص العمل، مثلما تتوفر فيها الحقوق السياسية وسيادة القانون ومحاربة الفساد، في ظل حكومات تعمل لخدمة المواطن، وليس العكس.

[email protected]