إلى وائل وحازم.. كل «الثورات» فيها حق وباطل

TT

في ندوة استضافها صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي، جرى نقاش ساخن بين رئيس الصندوق، دومنيك ستراوس - كان، والناشط المصري، وائل غنيم، وهو من الشخصيات البارزة في أحداث مصر الأخيرة. اتهم وائل الصندوق بأنه ارتكب «جرائم» وليس «أخطاء» بحق مصر عبر قراءة تقرير سابق للمؤسسة يمتدح الأداء الاقتصادي لحكومة د. أحمد نظيف، واختتم مداخلته قائلا: «يجب أن نوجه الانتقادات ونكون واضحين، فمساعدة الأنظمة في المنطقة أدت إلى أنظمة ديكتاتورية، فكانت الشعوب تتحمل أعباء الديون المترتبة من هذه البرامج، بينما النخبة تزداد ثراء.. ما نحتاجه هو عدم التدخل في أمورنا، ولكن نحتاج إلى إعطائنا الخبرة والقدرة على إدارة أمورنا».

رد ستراوس - كان مبينا عدم فهم غنيم لوظيفة الصندوق: «نحن لسنا بنكا يبحث عن زبائن لإقراضهم أموالا»، ثم عقب على طلب غنيم المساعدة من المؤسسات الدولية: «هل تعدني بأنك لن تلومني لو ساعدنا الحكومة إذا طلبت ذلك؟»، رد غنيم مازحا: «كوني ثوريا يجب أن أعارض»، إلا أن ستراوس الذي لم يعجبه هذا الرد المثالي حذره قائلا: «يجب أن لا تكون ثوريا من أجل أن تكون ثوريا، بل يجب أن تكون لديك أهداف» (تقرير: مينا العريبي، «الشرق الأوسط»، 16 أبريل الحالي).

في اعتقادي أن مدير الصندوق قد لخص وضعية الانتفاضات العربية الحالية، والتي يرغب البعض في مصر أو تونس في تسميتها «ثورة»، وهي أنها أولا، لا تدرك ما معنى إدارة دولة أو حكومة، وثانيا - ولعله الأهم - هي لا تملك حتى الآن أهدافا واضحة المعالم إلا إذا اعتبرنا «ارحل»، أو «إسقاط النظام» هدفا بحد ذاته. هنا تتجلى حقيقة مؤلمة وهي أننا بإزاء مخاض عسير تمر به هذه الدول، بحيث يصعب علينا التنبؤ بالوجهة التي ستسلكها، ولكن الأكيد أن بعضها يمر بمرحلة من «التشفي»، وروح «الانتقام»، بل ربما قلنا محاولة هائلة لغسل الذاكرة، واعتبار المرحلة السابقة كلها «فسادا» مطلقا و«انحطاطا» بلا استثناء، وكأننا لم نشهد خلال العقود الماضية تقدما وتغيرا إيجابيا ربما أفضى إلى الحالة التي نواجهها اليوم.

لأكثر من عقدين، والكاتب اللبناني القدير حازم صاغية يكتب بجسارة وشجاعة عن ضرورة «السلام» ونقد «المقاومة»، ويحذر من العصبيات التي تغذيها النعرات الإثنية، والطائفية، وعن اليوتوبيا التي تشيعها الحركات «القومية»، و«الإسلاموية»، ولكن صاغية، كأقلام كثيرة، كان له رأي مغاير في قراءة الأحداث الأخيرة التي تعصف بالمنطقة. يقول صاغية بأن الثورات ليست كائنات جميلة، ففيها يقتل البشر، وتخرج إلى السطح غرائز انتقام هي أسوأ ما فينا. ولكن حازم يجادل بأن «الثورات» الأخيرة في العالم العربي غيرت كل هذا، فليس فيها تمجيد للشهادة لأنها متواضعة واضطرارية، ولأنه لم تقف خلفها أفكار شمولية أو أصولية. وللأمانة، فإن صاغية ينبه إلى أن تلك الانتفاضات على الرغم من إعجابه بها ما تزال مرتبطة بمواقيت الصلاة، وأيام الجمعة، وأن العسكر والإخوان ما زالوا فاعلين في الحدث الجاري. إلا أنه يمضي ليقول: «الخيار اليوم، كما يتبدى جليا، هو بين كارثة تتمّ بالتقسيط منذ عشرات السنين، ولا تفضي إلا إلى الأفق الكوري الشمالي، وبين كارثة تحصل بالجملة لكنها قد تفتح باباً لتأسيس المستقبل» (في الثورات الراهنة، «الحياة»، 16 أبريل الحالي).

هنا يقع الكاتب القدير في وهم تبرير الفوضى، وهو أيضا يقترف خطأين: أولا، حين يجزم بأن الدول العربية منذ عشرات السنين تسير من أسوأ إلى أسوأ، وحين يفترض بأن المستقبل لن يتأسس إلا عبر «الثورة» - أو الكارثة كما سماها -. هنا يعتبر كل من صاغية وغنيم العهد السابق شرا كله، فلم تكن هناك إنجازات، أو مشروعات، أو دولة - بالمعنى المدني - قبل الثورة، وأن الخير - أو المستقبل - لن يجيء إلا بعد زوال هذا النظام أو ذاك.

لا أحد يجادل بأن الأنظمة العربية لم تكن تسيطر عليها نزعات استبدادية، أو أنها لم تتضمن فسادا كبيرا، ولكن ما نختلف فيه هو أنها لم تكن هي السبب الوحيد للمشكلة، أو أنها بعضها لم ينجز خلال مسيرته مشروعات مدنية، أو قانونية، أو اقتصادية تستحق الاحتفاظ بها.

مشكلتنا مع صبغ الماضي كله، ورجالاته بلون واحد، وافتراض أن العهود القادمة ستكون أفضل مما مضى. بعكس ما يتوقع البعض، حققت بعض الدول العربية خلال العقدين الماضيين تقدما ملحوظا على أكثر من صعيد، فتحسن الأداء الاقتصادي في بعضها، وقدمت إصلاحات قانونية وتشريعية ذات شأن في بعض منها. المنطق «الثوري» الذي يفترض أن المجتمعات تمسح ماضيها القريب، وتبتني لها مستقبلا من العدم فيه شيء من اليوتوبيا المتعالية، وهو ما يدفع المجتمعات إلى أتون الصراع مع مكوناتها الإثنية والاجتماعية، بحيث ينتصر البعض لرؤيته على حساب الآخرين.

هنا علينا أن نكون حذرين من محاولة غسل الذاكرة، فحكومة د. أحمد نظيف حققت نموا اقتصاديا لسنوات، وكون ذلك النمو لم يصل إلى الطبقات الفقيرة فمرده ليس إساءة متعمدة من صندوق النقد الدولي، أو من الحكومة، بل لأن الاقتصاد المصري القائم منذ عقود على دعم السلع والتوظيف الفائض في القطاع العام - وحتى اليوم - لا يتوافق مع معايير الإصلاح الاقتصادي المطلوبة. كان النظام منذ عقود يوفر تلك المعادلة لكي يلبي حاجات الأغلبية الفقيرة، ولكن مع الارتفاع الحاد في أسعار السلع الغذائية حول العالم، وتفشي التضخم، وتباطؤ الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة وقع النظام في ورطة.

إذن، المسألة ليست في تحميل الرئيس السابق وحكومته فقط المسؤولية، وافتراض أنه بزوالهم ستؤول الأمور إلى الأفضل. مشكلات مصر الاقتصادية أكبر من النظام السابق، وهي ستظل قائمة ما لم تتوفر في مصر مقومات للإصلاح الاقتصادي الجاد، والذي ربما تعجز عن تحقيقه أي حكومة ما لم تصحح الهدر العام في مشروعات الدعم والتوظيف، والسؤال: من يجرؤ على القيام بذلك لأن من شأنه الإضرار بالطبقات الفقيرة على المدى القصير.

يقول حازم عبد الرحمن: «ليس من الصواب أبدا أن ندق طبول الفرح ونزغرد لأننا أوقعنا بالرئيس السابق ومعاونيه.. هناك قطاع لا يستهان به من المصريين، من تلك الأغلبية الصامتة، تشعر بتعاطف إنساني نبيل معه.. (لقد) حافظ على أرض مصر، كما هي ولم يتركها تحت الاحتلال، ورفع العلم على طابا، ووفر مساحة من الحريات العامة غير مسبوقة، وتميز عهده بوجود ملحوظ للمعارضة في البرلمان وإن كان البرلمان الأخير خلا من كل معارضة وشهد تزويرا» (نريد محاكمة لا انتقاما، «الأهرام»، 16 أبريل الحالي).

من حق المجتمعات العربية أن تنفض عنها استبداد الماضي، ولكن من الخطأ أن نعتقد بأن بإمكاننا تجاوز الماضي بمجرد سقوط هذا النظام أو ذاك. الدول العربية تعاني من مشكلات اجتماعية، ودينية، واقتصادية ليست بالضرورة مرتبطة بشخص الرئيس السابق، أو رجاله، بل هي مشكلات حقيقية ستبقى ما لم تواجهها تلك الحكومات بحلول واقعية بعيدة عن المبالغة واتهام الماضي. الثورات ليست بالضرورة خيرا مطلقا، وليس شرطا أنها مرحلة انتقالية واجبة، فربما طالت الفوضى والظلم التي تحملها إلى عقود، وربما خلقت أنظمة أكثر استبدادا، ومجتمعات أكثر انغلاقا. كثير من الدول الأوروبية الشرقية شهدت تغيير أنظمة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكنها لم تنجح بعد مضي أكثر من عقدين على تجاوز مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية على الرغم من الانتخابات البرلمانية المتعاقبة. إيران اليوم بعد ثلاثة عقود من الثورة تعاني استبدادا يفوق عهد الشاه، وحالة اجتماعية واقتصادية وانعداما للحريات وقمعا أسوأ مما قبل الثورة.

العبرة ليست بالثورة – الشعاراتية -، أو محاكمة النظام السابق بنفس أدواته الاستبدادية، وإنما في بناء الدول على قواعد من العدل، والتسامح، والتطلع للتعاون مع الآخرين، وفهم أن إدارة الدولة وفهم قواعد النمو الاقتصادي ليست بالاشتراطات الثورية «المثالية».

لقد قال وائل غنيم هازئا إن ما حدث من «ثورة» هو «صفعة» في وجه أولئك الذين يطالبون بالحل «الإصلاحي»، ولكن متى كان «الإصلاح» عيبا، ومتى كانت «الثورة» فضيلة.

الثورات يا وائل تحمل في تضاعيفها الحق والباطل.