الانتقام من السياسة

TT

ربما كان من أهم أسئلة الثورات منذ انطلاقها حيوية وإلحاحا، سؤال: ما النظام الذي يريد الشعب تغييره؟!

وبقدر بساطة هذا السؤال وتبسيطه إلا أنه ظل المحرك الرئيسي لانتفاضة الجماهير الغفيرة التي خرجت لتغيير واقعها بعد أن وصلت الحالة العامة إلى مرحلة الغليان، كل دولة بحسبها: الفساد والتحول إلى نظام الحاكم الفرد في تونس، وترهل النظام السياسي واختطاف الحزب الوطني للوضع الأمني والاقتصادي في مصر، مع التلكؤ في مسألة التوريث التي لم تكن مقلقة للمعارضة أو الجماهير بقدر ما أنها كانت سؤالا ملحا لبعض أركان النظام والجيش، ليتم بعد ذلك، على إيقاع نجاحات الثورة الهائلة على المستوى الزمني وتواضع فاتورتها التي تم دفعها على مستوى الضحايا والفوضى، استنساخها وتحولها من ورقة ضغط إلى محل اختبار وممارسة فعلية فيما يشبه الوباءات الاجتماعية التي تتلاشى معها الفروق وتتعطل المقارنات، فما دام تغيير الواقع الجاثم على مدى عقود بهذه التكلفة، كان الضغط على الذات الجمعية شديدا بأنها تستحق الأفضل، وأحيانا يجب أن تجرب حتى ولو لم تتوقع الأفضل ما دام الأسوأ قد استغرق الواقع وأغرقه بتعقيداته وسلبياته كما هي الحالات اللاحقة للثورات في ليبيا واليمن، والآن سورية.

صحيح أن الفروق تبدو ضخمة لمن يعاين الحالات اللاحقة لتجربتي تونس ومصر الناجزتين بشكل حرض على استنساخهما، وإن بدا غير أخلاقي بالمرة في الحالة الليبية بسبب حالة الانسداد التي أسهم فيها ببراعة وهمجية النظام الليبي؛ حيث ذابت الفروق تقريبا بين تشكلات الحالة السياسية فلم يعد نظام أو معارضة يمكن أن تفاوض أو تضغط باتجاه الحل، ولم يعد بالتالي أغلبية صامتة تنتظر انتصار أحد الطرفين، حول نظام القذافي ليبيا إلى أتون يحترق فيه الجميع: الشعب والمعارضة والنظام، بل وحتى القادمون على استحياء، وربما ارتباك لمحاولة تغيير كفة المعادلة على الأرض بفعل القوة، تلك القوة التي لم تعد مجرد أداة ترجيح الموازين بقدر ما أنها يمكن، مع ارتباك الحالة السياسية على الأرض، أن تتحول إلى أداة تدميرية متى ما فقدت بوصلتها وإدارتها بشكل جيد لتحقيق أهدافها.

ذات مرة قال آفريل هاريمان، السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفياتي عام 1943: يمكنني أن أتدبر أمر ستالين، لكنني أخشى من المتطرفين في الكرملين. هذه العبارة لم تكن مجرد عبارة ساخرة تعليقا على الوضع آنذاك بقدر ما أنها تكثيف للسؤال الممض: ما حدود قبضة الديكتاتور في السلطة؟ بل ما النظام السياسي الذي لا يبدو أنه يتمثل في شخص الرئيس فقط أو المحيطين به بقدر ما أنه ثقافة مهيمنة يكرسها عبر سنوات طويلة من القمع والانفراد بالسلطة ويذيب بداخلها الفروق الأخرى كلها؟ بل في كثير من الإحالات التي يفرزها واقع ما بعد رحيل النظام يتم اكتشاف أن كثيرا من فئات المعارضة التي تصعد كبديل له لم تستطع التخلص من ثقافته التي غدت جزءا أصيلا من «المخيل السياسي» بما يشمل طريقة التفكير في إدارة السلطة والتعامل مع الشرائح المختلفة من المجتمع والإيمان بالتعددية واستخدام القوى الدينية باتجاه الضغط على الأقليات.

أشباه الأنظمة المطاح بها يعززون من حضورهم بالاستقواء بارتباك الخارج وحذره الشديد من التدخل بشكل قد يعطل مصالحه بالدرجة الأولى ويصوره على أنه يكرر أخطاءه في التعامل مع التغييرات في منطقة الشرق الأوسط التي تتراوح ما بين الاحتلال والدخول العسكري المباشر الذي أفرز كابوس أفغانستان والعراق الذي لا يراد له أن يتكرر.

ما قالته الثورات اللاحقة، التي قفزت على الفروق بين هذا النظام وذاك: إن ثمة حالة انتقام من السياسة، بدءا من الحالة السياسية الآسنة بفعل ركود مياه الإصلاح والتغيير، ومرورا بالتشكلات السياسية التي تمثلها المعارضة السابقة، التي ما زالت منفصلة تماما عن التحكم بزمام الأمور على الأرض، ووصولا إلى الرفض للمبادرات الآتية من الخارج باعتبار أنها جاءت في الوقت الضائع؛ حيث منعها ارتباكها وحالة الترقب الذي كانت تنتهجه عن نزع فتيل الأزمة التي ظهرت نذرها منذ سنوات طويلة.

جزء من حالة الانتقام من السياسة، الذي يمارسه «الشارع» اليوم، هو فك الارتباط بين ثنائية الأنظمة والمعارضة، الذي لا يعني بحال أنها تمثل الأغلبية أو صوت الشعب، الجماهير اليوم تراهن على وضع أفضل وواقع أكثر قربا منها وليس من السياسة التي تعاملها كأرقام وقوى فاعلة وأوراق ضغط، تبحث، في خضم رفضها للواقع وللمبادرات واستمرارها في الاحتجاج، عن بدائل أكثر نفعا مما انقلبت عليه، وهذا ما يفسر حالة الرفض لأي مساومات سياسية لا تثق بها، وهو ما يجعلنا نفكر كثيرا في إرغامها من قبل المجتمع الدولي والولايات المتحدة بهدف البحث عن الاستقرار وإيجاد حلول للواقع المأزوم عن وصفات سياسية جاهزة للتطبيق قبل طمأنتها على أن تستحق الأفضل على مستوى المعيشة والتعليم والحياة اليومية.

[email protected]