العرب وإيران وأزمات مناطق النفوذ

TT

عاد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى اتهام الولايات المتحدة (وإسرائيل) بالتآمر على العلاقات الإيرانية - العربية، لتسهيل الهيمنة على المنطقة، وتحويل الصراع الإسلامي - الصهيوني، إلى صراع إيراني - عربي، بالفتنة الطائفية (بين الشيعة والسنة) تارة، أو بالزعم أن إيران هي التي تهدد أمن الخليج، تارة أخرى. وكان المسؤولون الإيرانيون جميعا قد هاجموا التدخل الخليجي بالبحرين، ودعوا السعودية على الخصوص إلى الخروج منها، وسموا ذلك احتلالا واستعمارا. وفي حين ما أقلقت إيران الاضطرابات الطائفية وغير الطائفية بالبحرين، وما رأت أنها تستدعي تدخلا من أجل أمن الناس ومعيشتهم، وحتى إصلاحهم السياسي؛ فإن الجمهورية الإسلامية استنكرت إدانات الدول الأوروبية والولايات المتحدة، للقسوة البالغة ضد المتظاهرين في المدن السورية، وانتهاكات حقوق الإنسان وحريات التعبير، وقالت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية: إن ما يجري بسورية لا يستدعي القلق، وإدانته غير مبررة، وإنما في الأمر مؤامرة على الأمن هناك، لوقوف نظام الرئيس الأسد مع المقاومة، واستعصائه على الحلول الصهيونية والاستسلامية! وكان إعلام الجمهورية الإسلامية قد اتهم الكويت بمثل ما اتهم به السعودية، بسبب كشفها عن شبكة تجسس إيرانية، ومحاكمة أعضائها وإدانتهم. وطوال السنوات الماضية، ظل إعلام الجمهورية الإسلامية يتهم معارضي حزب الله من قوى «14 آذار»، كما يتهمهم مسؤولو حزب الله والرئيس الأسد، بأنهم إنما ينفذون مخططا أميركيا وصهيونيا ضد المقاومة، وضد النظام الممانع في سورية! وهكذا فكل حركة في إيران والعالم العربي والعالم أجمع، لا تكون الجمهورية الإسلامية (وسورية وربما نظام الرئيس شافيز بفنزويلا!) موافقة عليها؛ فإنها تكون تعبيرا عن خطة تآمرية من أميركا وعملائها سوف تفشلها جماهير الشعب الإيراني، والشعوب المحبة للسلام والحرية. وهكذا، ما تقدمت العلاقات الإيرانية - العربية منذ عام 2003 قيد أنملة، وفي حين كانت إيران في موقع الهجوم دائما، كان العرب على الدوام من وجهة نظرها، في موقع وموقف الدفاع بسبب العجز أو العمالة أو الاستتباع!

لماذا هذا كله، وما هو مآل هذه الأحوال والعلائق؟ ليس للعرب أي ذنب فيما جرى ويجري، لكن العلاقات بين الدول والمحاور لا تقوم على النيات الحسنة، ولا على براءة المقصد، ولا على أخوة الدين، وإنما على التصرفات والنتائج. وقد بدأ الأمر في المرحلة الجديدة (العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) بالاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق. فمع أن الجمهورية الإسلامية استشيرت في المسألتين، وتعاونت فيهما مع أميركا؛ فإن قلقها لم يختف من الحضور الأميركي الكثيف من حولها. ولذلك فقد كانت استراتيجيتها الإفادة من الحضور الأميركي بقدر الإمكان (مثل القضاء على طالبان، والقضاء على حكم صدام حسين)، والعمل في الوقت نفسه على تقصير مدة ذلك الحضور من طريق التجاذب بالواسطة وليس المناطحة بشكل مباشر، والحلول محل الولايات المتحدة في كل مكان تنسحب منه إن أمكن. وهكذا وفي البدء بالتعاون، ساعدت أميركا «لوجيستيا» - كما قالت سلطاتها - في أفغانستان، وشاركت أميركا في حكم العراق بعد الاحتلال، من طريق الأحزاب المسلحة المعارضة التي دخلت مع الأميركان، ومن طريق هدم مؤسسات الدولة العراقية السابقة، ومن طريق اختراق صفوف حركة مقتدى الصدر، ومن طريق العمل الاستخباري المباشر (جيش القدس)، ومن طريق دوزنة التدخل من جهة سورية، بالتنسيق مع السلطات هناك. وفي النهاية، ومن دون تطويل، استطاعت الجمهورية الإسلامية بالعراق، وعلى مشارف الانسحاب الأميركي منه، أن تنجز اتفاقا مع الولايات المتحدة لتقاسم النفوذ جيء بمقتضاه بالمالكي رئيسا للوزراء. وما حسم الأمر نهائيا بعد، بسبب التذمر الشيعي (أكثر من السني) من الفساد وعدم فعالية حكومة المالكي في مسائل الخدمات وصون استقلال البلاد وحرياتها؛ إنما شك أن إيران هي صاحبة اليد الطولى بالعراق اليوم، وقد تبقى كذلك لسنوات بعد.

وعندما كان هذا الاحتكاك بالولايات المتحدة جاريا بالإيجاب والسلب؛ مضت الجمهورية الإسلامية خطوتين باتجاه غرب الفرات والبحر المتوسط. فقد توفي الرئيس حافظ الأسد عام 2000، وتغيرت قواعد الشراكة السورية مع إيران لصالحها. ولذلك دعمت إيران بقاء حزب الله وسلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، فتحرش الحزب بإسرائيل عام 2006، على أثر تراجع «الود العلني» بين أميركا وإيران بسبب الملف النووي، وكثافة التدخل الإيراني بالعراق، وكانت نتيجة الحرب الإسرائيلية على الحزب ولبنان، لصالح إيران ونفوذها، وتحكمها بمسار الأمور في لبنان وإلى حد ما في سياسات سورية الخارجية. وكانت الخطوة الثانية دعم حماس التي استقرت قيادتها السياسية والعسكرية بدمشق، ومن ثم دفعها باتجاه الانفصال بغزة (بعد عجزها عن السيطرة بالضفة رغم فوزها في الانتخابات)، عقابا للسعودية ومصر لمعارضتهما للتدخلات الإيرانية، ولتثبيت موقعها في القضية الفلسطينية على حساب العرب.

وإلى هذين الاختراقين الاستراتيجيين بالعراق وفلسطين، لغير صالح العرب أو القضية الفلسطينية، حرصت الجمهورية الإسلامية منذ ثمانينات القرن الماضي، باعتبارها المرجعية الشيعية في العالم كله، على استقطاب المجموعات الشيعية في المشرق العربي والخليج. وقد شمل هذا الاستقطاب الدعم المادي والتنظيم ونشر مرجعية وسلطة الولي الفقيه، ووصولا - بقصد ومن دون قصد - إلى استحداث وعي فصامي وانفصالي (أو خصوصي على الأقل)، بين المجموعات الشيعية العربية يقوم على التمايز والتحشد في مواجهة فئات الشعب الأخرى، وبذرائع مختلفة؛ من مثل مصارعة إسرائيل في لبنان، والمظلومية في البحرين، وتطلب المزيد من التجنيس والإصلاح بالكويت، والإخراج من التهميش باليمن. وهذه القدرات التنظيمية والتحشيدية استخدمت بكل الاتجاهات، بحسب علاقة إيران بالنظام العربي المعني.

لقد اتهم نجاد - كما سبق القول - أميركا وإسرائيل وأتباعهما في ديارنا بإحداث فتنة بين الشيعة والسنة، وبين إيران والعرب. لكن الواقع أن إيران وسياساتها كانت عاملا رئيسيا في الوصول بالعلاقات مع العرب ومع السنة إلى هذا المستوى المتردي. فقد حرضت وشاركت في عمليات الاضطراب والفتنة الطائفية بالعراق، حتى اتهمها الأميركيون بذلك عندما كانوا لا يزالون أصدقاء عام 2005. وما حالوا - رغم الاتصال السعودي بهم - دون محاصرة الحكومة اللبنانية بجمهورهم وتمويلهم على مدى أكثر من عام ونصف العام، ثم عمدوا إلى دخول بيروت بالسلاح عام 2008، وأسقطوا بوهج السلاح حكومة سعد الحريري (التي شكلها معهم بعد فوزه عليهم في الانتخابات)، وها هم ماضون كما من قبل في اتهام خصومهم السياسيين بالعمالة لإسرائيل، والتفاخر عليهم بالأمانة والوطنية، ومن لا يعجبه ذلك ولا يصمت عليه، فكأنه ارتكب جريمة في حق هؤلاء المعصومين عن كل خطأ. وبالإضافة إلى شراكتهم مع السوريين والجنرال عون في إسقاط الحكومات وصنع الانقلابات (وكلها ضد السنة)، يصيرون إلى تعطيل كل شيء، ويقيمون كيانهم الخاص خارج سلطة الدولة؛ مما جعل من لبنان بلدا لا يمكن حكمه، أو دولة فاشلة. وكانت البحرين هي البلد الثاني بعد لبنان، والتي جعلوا من حكمها أمرا مستحيلا، ساعة بحجة دعم الجمهورية الإسلامية ضد أميركا، وساعة بحجة الإصلاح، وساعة لاستخدام حقهم في حرية التظاهر. وآخر مرة قالوا إنهم سيستخدمون هذا الحق إلى أن يسقط النظام. ولو لم يتدخل مجلس التعاون الخليجي لصار الأمر بالبحرين (التي تدعي إيران ملكيتها بشكل دوري) إلى أسوأ من الوضع اللبناني، لأن الفتنتين هناك سوف تجتمعان: الفتنة السنية - الشيعية، والفتنة الإيرانية - العربية.

وفي كل الحالات، ظلت دول الخليج هي القائمة بالمبادرة لتحسين العلاقات مع إيران في العشرين سنة الأخيرة. إذ ما بقي مسؤول بالخليج إلا زار إيران في السنوات الماضية، وأكثر من مرة. وما نفعت هذه العلاقات الثنائية والزيارات المتبادلة في تخفيف التوتر الذي ظلت إيران هي التي تبادر إليه. والمعروف أن الملك عبد الله بن عبد العزيز حاول - ولي عهد وملكا - تحين العلاقات مع إيران، والمبادرة للتواصل في عدة مناسبات وأزمات. واشتهر عنه قوله: «لن أوفر أي جهد لتصويب العلاقات مع إيران». بيد أن شيئا من ذلك لم ينفع، رغم تكرار المحاولات إما من أجل أمن الخليج، وإما من أجل تخفيف التوتر بسبب العراق أو لبنان أو البحرين.

وما بدأت التوترات أيام نجاد بالطبع، بل هي تعود لأكثر من عقدين. لكنها هدأت أيام الرئيس رفسنجاني، وتحسنت العلاقات أيام الرئيس خاتمي. وبلغ التوتر ذروة غير مسبوقة أيام نجاد وطبعا في سياق الهجمة الأميركية على المنطقة، وعلى العرب، وتعملق الدعم الأميركي لإسرائيل. ولا شك أن إيران تعرضت للضغوط الأميركية أيضا رغم تعاونها المشهود مع الولايات المتحدة في سنوات الهجمة الأولى. وقد كانت المشكلة دائما أن إيران تتصرف تجاه الدول والمجتمعات العربية وكأنها جميعا ديار أميركية أو إسرائيلية، بالتدخل للتقسيم والشرذمة واستخدام السلاح ونشر الاضطراب والتهديد بقوة إيران على أعدائها! وإذا ارتفعت الشكوى من ذلك، يقول الإيرانيون إنهم يستهدفون أميركا وإسرائيل، رغم أن كل الظواهر تشير إلى أن الضرر الواقع واقع بالعرب دون إسرائيل ودون أميركا، وإلا فماذا استفاد العرب والمسلمون من تعطل حكومتي البحرين ولبنان، ومن تقسيم فلسطين المحتلة إلى دويلتين، ومن اضطرار دول الخليج للدخول في سباق تسلح مع إيران؟!

هناك تأزم الآن في كل مناطق النفوذ الإيرانية: في العراق، وفي سورية، وفي لبنان، وفي غزة، وفي البحرين. وهذا هو سر النرفزة البادية في التصريحات والتصرفات الإيرانية. ولسنا ندري الآن أين ستتحرك إيران للدفاع عن مناطق نفوذها الجديدة هذه. إنما الذي ندريه ونعرفه أن هذه المجتمعات والدول المنقسمة والمأزومة إيران هي المتسببة في مشكلاتها.

قال الأمير سعود الفيصل في آخر مؤتمرات القمة العربية بمدينة سرت الليبية إن العلاقات العربية مع دول الجوار وبخاصة إيران لن تتحسن إلا بالتصدي للفراغ الاستراتيجي الذي يعاني منه العرب، ويجرئ عليهم الإيرانيين وغيرهم. وها هي إجراءات إقامة التحصينات في وجه التدخلات بالمواقف الواضحة في الخليج وخارجه. ويكون على العرب الذين ما بقي منهم أحد متماسكا غير مجلس التعاون الخليجي الاعتناء فورا باليمن، وبعد انجلاء الأفق عن المتغيرات العربية، الالتفات إلى بداية جديدة في فلسطين، والسعي - بعد تحقق الندية - إلى محادثات استراتيجية حوارية مع إيران ومع تركيا، بدلا من تبادل النظرات المتخابثة مع ورثة آل عثمان، وتبادل العيون الحمراء مع ورثة الصفويين. ولله الأمر من قبل ومن بعد.