مرة أخرى: أين دياب؟

TT

لا يجد الإنسان الكلام المناسب في حضرة الغياب الكبير، لا يجد الإنسان الكثير من الكلام، ويكون الصمت أبلغ القصائد.

هكذا كان الحال بعد غياب الصديق والأخ الكبير محمد صادق دياب عن هذه الدنيا مؤخرا، بعد أن خاض في بحر الوجع ومشى حافي القدمين على درب الألم، وكان جميلا حتى وهو يصل إلى المحطة الأخيرة في درب الحياة.

كثيرون هم أصدقاء محمد صادق دياب، وكثير هو من يحتفظ له بموقف أو حوار، هو رجل اللقاء ومرسال الحب.

تربوي، صحافي، فنان، مستنير، واضح الانحياز للانفتاح، وضد التعصب، ولكنه يحاول دوما أن يدور الزوايا، ويهذب شفرات الخناجر.

الذكريات، على قرب العهد، كلها طيبة مع هذا الإنسان الجميل، لكن كان ما يشدك إليه وهو في مرضه أنه لم تصبه أية هزة أو رعشة أو اضطراب فكري، مما يصيب الكثيرين بالهلع عندما يصابون برشحة زكام أو ضائقة مادية أو توقف عابر في سجن من سجون العالم العربي!

لعل بعض القراء لهذه الصحيفة يذكر الحوارية التي جرت بيني وبين الراحل الكبير في هذه الجريدة، حين كتبت مقالة أسأل فيها عن غياب الدياب، وأين هو، وكانت بعنوان أين محمد صادق دياب؟، فرد على المقال بنفسه، وكان هذا مصدر فرح لمحبيه وقرائه أنه استعاد عافيته الكتابية والنفسية.

كان مما قلته في ذلك المقال: «نفتقد دياب، الرجل البهي النفس، الدائم التفاؤل، الفنان في عبارته وفكرته، المنقب عن الأحلى في غابة القبح».

وكان مما رد عليّ بعد ذلك بعدة أيام، في مقال بعنوان (أبحث عن ذلك المدعو «أنا»). إذ قال: «قادني سؤال مشاري إلى أن أفتح جهاز الكومبيوتر محاولا أن أضرب موعدا على تلك الصفحة الشاغرة مع الكتابة، فأنا ولعبة الكلمات صديقان لم نفترق على مدى عقود، إلا مؤخرا، وهي لم تودعني، ولم أودعها، ولكن هذه اللعبة اليوم لم تغدُ سهلة، وجدت نفسي بعد هذا الغياب القسري كلاعب كرة قدم موقوف يزج به بلا مقدمات في مباراة ساخنة، فبدا طائش الركلات، متهيب الخطى، متعثر الركض، وهكذا ظللت أحطب بليل، أجدف يمنة ويسرة، يتملكني الوهن فأتوقف، ويحفزني الحنين فأواصل التجديف رغبة في الوصول إليكم من جديد.

وفي الصباح، وكنت أهم لأن أمسح وجهي من المرآة أحسست أن ثمة بعضا من ملامحي القديمة ينبت من جديد على سطحها، هل هو خداع المرايا؟! هل هي فرحة الكتابة؟! هل هي تباشير الشفاء؟ لست أدري، لكن ما أدريه أنني أشعر اليوم أفضل، أن رغبتي في تجاوز المرض أكبر وأكبر، وأن توكلي على الله أعمق وأرحب».

إلى اللقاء يا صديقنا الكبير..

[email protected]