بعد صناعة الاستبداد (يتوحم) الغرب على انتفاضات الشعوب

TT

لماذا طالبت منظمة المؤتمر الإسلامي بتنظيم مؤتمر دولي لـ (تعريف الإرهاب)؟.. قد تتعدد التفسيرات، ولكن مهما كان عددها، فإن من دوافع هذه المنظمة الدولية المحترمة إلى هذه الدعوة: أنه قد حصل انحراف كبير في مكافحة الإرهاب، من صوره - مثلا -: هوس التخويف من الإسلام بحسبانه دين أو عقيدة إرهاب.. ومما لا ريب فيه: أن سبب ذلك الانحراف هو (الغموض أو الإبهام المتعمد) في تعريف الإرهاب، ذلك أنه من خلال هذا الغموض يمط تعريف الإرهاب ليشمل كل فكر أو سلوك لا يتناغم مع مصالح أو أهواء أصحاب التعريف الغامض الحمال لأوجه عدة، ندخل من هذا الغموض إلى غموض آخر - غربي أيضا - ومرتبط به هو غموض العقيدة العسكرية الجديدة لحلف (الناتو).. فقد نشأ هذا الحلف - بادئ ذي بدء - وفق عقيدة آيديولوجية عسكرية واضحة ومحددة وهي: معاداة الكتلة الشيوعية ومجابهتها عسكريا - تقليديا أو نوويا -، فلما سقطت هذه الكتلة بسقوط مركزها وهو الاتحاد السوفياتي: زال هدف الناتو بداهة!.. من هنا، عكف خبراء غربيون على إيجاد (عقيدة جديدة) للحلف (طبعا بعد قرار ببقائه واستمراره). ولهذا الغرض تكثفت اجتماعاتهم خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2010 - على سبيل المثال -.. ولما كانت العقيدة الجديدة تتطلب وجود عدو، ولما كانت العقيدة الجديدة هي مكافحة الإرهاب، ولما كان العالم الإسلامي - بوجه خاص - متهما بإنتاج الإرهاب وتصديره، ولما كانت حملات (الخوف المرضي من الإسلام) أصبحت غذاء دائما للإعلام السياسي والفكري والثقافي، وهي حملات تخدم استراتيجية وصم الإسلام كله والمسلمين جميعا بالإرهاب: لذلك كله بدت العقيدة الجديدة للناتو وكأنها تستهدف العالم الإسلامي: بحجة مكافحة الإرهاب، أو بتعلة إطفاء حرائق مشتعلة في العالم الإسلامي، ولا سيما في المناطق التي يعدها مماسة لدوله أو بعض دوله.. ومما زاد الغموضين السابقين غموضا: قرار مجلس الأمن 1973 والخاص بليبيا، والذي خول الحلف القيام بعمليات عسكرية هناك. ففي هذا القرار من الغموض ما يجعله متكأ دوليا يمارس الحلف من خلاله عقيدته الجديدة.. ومن الدلائل على غموض القرار: اختلاف أعضاء مجلس الأمن حوله، بل اختلاف الموافقين عليه حول مضامينه ومقاصده.

نعم. قد يستفيد الليبيون المظلومون المضطهدون من هذا القرار. فالمشرف على الغرق يتشبث بأي شيء لكي لا يغرق. بيد أن القرار أخطر من ذلك وأكبر وأبعد مدى.. ولقد قلنا في مقال سابق: إن الطغاة المستبدين هم المتسببون في النفوذ الأجنبي: بوجودهم وبزوالهم.

والحق نقول لكم: إن كل ما تقدم إنما هو تمهيد ومفاتح لموضوع المقال الماثل.

إن موضوع هذا المقال هو: أن الغرب يناور وينافق، يبدئ ويعيد ويراوغ ويخادع ويتجمل ويتكحل ويتبرج ليظهر في مرآة الشعوب العربية في صورة المدافع عن المبادئ الجميلة: كالحرية والعدالة والتقدم وحقوق الإنسان بصفة عامة.. ليظهر في صورة الظهير للشعوب، المعادي لقاصمي ظهورها من الطغاة المستبدين.. ولم ينس الساسة الغربيون وهم ينهمكون في التبرج السياسي والإعلامي والحضاري.. لم ينس هؤلاء أن يصوغوا قصائد هجاء في ذم أولئك المستبدين ولعنهم!.. ولكشف هذا النفاق الغربي الضخم، نطرح منظومة أسئلة: نأمل أن يتحدانا أحد غربي في الإجابة عنها بـ (النفي): مَن صنع الانقلابات العسكرية في العالم العربي الإسلامي عبر الستين سنة الماضية؟.. من أتى بالجنرال سوهارتو في إندونيسيا وحرس حكمه وأضفى عليه ألقاب العقلانية والوطنية عبر ثلاثين سنة؟.. من ساعد صدام حسين على القفز إلى السلطة بعد أن أعده لها؟.. من نصب شاه إيران وكيلا إقليميا في المنطقة وأمده بالحراسة الشخصية، وبكم هائل من الأسلحة جعلت جيشه القوة السادسة في العالم حتى امتلأ غرورا؟.. من أتى بالقذافي وحماه وأنقذه من عشرات الانقلابات العسكرية؟.. من تعامل مع طاغية رومانيا (شاوشيسكو) دهرا طويلا، وسكت عن دمويته المتوحشة مقابل معلومات يقدمها للغرب عن حلف وارسو والكتلة الشيوعية؟.. من فعل هذا كله - ومثله معه -.. إنهم الساسة الغربيون الذين ينعون الاستبداد اليوم، ويصفقون للشعوب التي ثارت عليه!.

ولكن لماذا (يتقرب) الساسة الغربيون إلى الشعوب العربية المنتفضة أو الثائرة؟.

الهدف - بالضبط - هو (الاختراق الأعظم في العمق) أي عمق المجتمعات والشعوب العربية.. ولكي لا ينشغل الذهن بـ (وسوسات) لا سند لها من واقع، ولا منطق، ولا وثيقة: نقدم نموذجين موثقين من هذا الاختراق:

أولا: النموذج الأول معروف إلى درجة (الشهرة) عند كل مهتم وذي فطنة في هذا الشأن: ثمة مراكز بحوث ودراسات غربية مختصة بدراسة مراكز القرار، ومنشغلة باختراق الأمن القومي للبلدان العربية. فهذه المراكز تنصب دراساتها على كيفية صناعة سياسات الأمن الوطني في الدول العربية مثل: التسليح، وشراء الأسلحة وآليات الرقابة على عمليات التسلح وعلى ميزانيات وعمل القوات المسلحة.. يضاف إلى ذلك: دراسات معمقة موسعة عن رجال القضاء والنيابات العامة والبرلمانيين ورجال الشرطة واتجاهات الطلبة.. هذا ليس جديدا. بل يعمل الغربيون على اختراق هذه الحصون منذ أمد بعيد.

ثانيا: النموذج الثاني (الجديد) من الاختراق الأعظم.. يبدو أنه قد حان حين الاختراق الأعظم العميق الكبير لصميم المجتمعات والشعوب العربية في نظر هؤلاء.. حان حين ذلك بمقتضى حراك ظرفي هو الانتفاضات التي تشهدها مجتمعات عربية.

هناك - الآن - ما يمكن تسميته (الغزو الغربي المدني) لهذه المجتمعات عبر آليات ومظاهر تبدو جد طبيعية أو خيرية أو إنسانية!.. لنقرأ ونفهم:

1 - قال مسؤول عسكري أميركي: ((إن منظمات أميركية تساعد الأحزاب السياسية الناشئة في مصر على تنظيم نفسها))

2 - قال جون ماكين - رئيس المعهد الجمهوري الأميركي-: ((من المهم عندما يكون لنا علاقات مع حكومات مستبدة: أن نخطط لليوم الذي قد يسقطون فيه عن السلطة، وأن نرعى ونغذي من يمكن أن يخلعوهم ((!!!)) وأنه يجب أن يكون لنا وجود في هذه البلدان للمساعدة في بناء مؤسسات ديمقراطية وتوفير بيئة مساعدة للأحزاب السياسية والمجتمع المدني ليتمكنوا من التنظيم والإعداد ليأخذوا دورهم في الانتخابات)).

3 - قال نائب السفير الألماني في القاهرة: ((سيكون هناك اتصال دائم وقناة للحوار بين شباب الثورة الذين أسهموا في إحداث تغيير في مستقبل بلادهم وبين المسؤولين الألمان وأساتذة الجامعات والشباب في ألمانيا لتبادل الآراء. وأن ألمانيا تدرس فتح ملتقى في المنوفية والصعيد لإعطاء فرصة للشباب في منطقتي الدلتا والصعيد للتعبير عن آرائهم والمشاركة بصورة فعالة في الحياة السياسية في مصر)).

وي... ما هذا اللعب بالأمم؟.. أبعد وصايتكم على الأمة من خلال لعبة الاستبداد: تريدون الوصاية عليها من خلال لعبة الديمقراطية؟.. أين حقوق الناس في التحرر من الوصاية، وفي ممارسة خياراتهم باستقلال وكرامة وعزة يستمدونها من الله خالقهم.. لا منكم أنتم؟