فن دبلوماسية الصحافة الجماهيرية

TT

تطرق الأستاذ طارق الحميد، رئيس التحرير، مرتين لقضية هاجس مشترك، بين الساسة والصحافيين. هاجس لا يعني توافق الطرفين بل تناقضهما فالخبر «الموضوعي» عند السياسي هو ما يرفع شعبيته، أما غير ذلك «غياب المسؤولية».

في الأولى، تناول دعم الإدارة الأميركية السابقة، بستة ملايين دولار لقناة تلفزيونية معارضة للنظام السوري في لندن، متعجبا من التفكير في أن قناة تلفزيونية، تبث من لندن (محدودة الرواج في سورية، لعدم تساهل النظام مع فكرة التقاط فضائيات معارضة) بإمكانها إسقاط النظام!

في الثانية، تناول الحميد مطالبة الأميركيين المملكة العربية السعودية بمنع تلفزيون نظام الكولونيل معمر القذافي (الذي سحب المجتمع الدولي، وأغلبية الأمة الليبية شرعيته) من استخدم القمر الصناعي «عربسات». وردت الرياض بأن القمر الصناعي وخدماته يمتلكها شركاء متعددون، أحدهم السعودية، وبالتالي لا تستطيع المملكة وحدها اتخاذ هذا القرار.

من الوقائع التي لا يستطيع المؤرخون المعاصرون إنكارها، لأنها حقائق أساسية لعصرنا: اعتماد الأنظمة الشمولية إلى حد هائل على الصحافة الجماهيرية الشعبية (مطبوعة ومرئية ومسموعة - فكما يعلم القراء الأعزاء أتجنب استخدام كلمة إعلام قدر المستطاع).

عندما أعاد نظام صدام حسين ترتيب أولويات الميزانية بعد تجرع الخميني كأس السم بإنهاء غير مشروط لحرب العراق وإيران، رفض الديكتاتور العراقي الراحل إنقاص ميزانية الصحافة، بل خصص 67 مليون دولار إضافة سنويا لدعم الصحافيين غير العراقيين في الصحافة العربية، إقليميا وعالميا، (كهدية سيارة «مرسيدس» لكل رئيس تحرير)، ومرتبات استشارية (يمكن مراجعة الوثائق في كتابي Unholy Babylon: The Secrete History of Saddam’s War. الصادر في يناير 1991 - لندن ونيويورك – لم يترجم للعربية).

جوزيف غوبلز أول من عَلْمَن (أي جعلها علما) استخدام صحافة الاتصال الجماهيري (في عهده الراديو) لترويج البروباغندا النازية وقلده جوزيف ستالين. وبعد عقد طور أسلوبه الكولونيل جمال عبد الناصر، لينجح في بيع شعارات القومية العربية محولا طاقات الجماهير من المطالبة بحقوق الإنسان والعدالة إلى محاربة طواحين هواء خارجية (من بريطانيا وفرنسا، إلى الخصوم العرب، إلى إسرائيل، إلى أميركا).

بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 - خصصت إدارة بوش ميزانيات ضخمة للدبلوماسية الجماهيرية (الأقرب لـPublic Diplomacy) للحوار مع الشعوب الإسلامية ومخاطبتهم مباشرة بإذاعات كـ«راديو سوا»، وتلفزيون «الحرة» (ضاعت ملايين في سنواته الأولى من سوء الإدارة الشللية).

والأميركيون تنقصهم خبرة الإنجليز الطويلة وقرون صداقة مع العرب والمسلمين كالـ«بي بي سي» الخارجية (بأكثر من ثلاثين لغة في فترة الحرب الباردة)، ومنها العربية التي تتمتع بمهنية عالية واحترام المستمعين الأجانب (أي غير البريطانيين) لسبعة عقود.

فات الأميركيين ثلاث حقائق أساسية، لخصها الزميل الحميد في جملة واحدة «إن قناة تلفزيونية لا تسقط نظاما».

أولها، أن الإذاعة والتلفزيون كصحافة جماهيرية في الأنظمة الشمولية، تكملها آليات قمع شديدة الصرامة، تتراوح ما بين إلقاء المعارضين في معتقلات وراء متناول العقل الجماعي للأمة (وراء الشمس حسب التعبير المصري المنتشر أيام معتقلات دولة الكولونيل عبد الناصر البوليسية)، ومواجهتهم بوحشية دموية كقنابل النظام الليبي العنقودية ضد المدنيين في مصراتة.

الظاهرة الثانية، نظام التعليم الشمولي كمفرخة لنظام الصحافة الشمولية. الانقلابات العسكرية في المنطقة، وبلا استثناء، قلبت النظام المدرسي من مفهوم وزارة «المعارف» إلى وزارة «التربية».

استراتيجية «المعارف» وسائل تعليم مرنة، تعدل محليا، بغرض تطوير غريزة حب استطلاع الطفولة إلى مهارات ذهنية مستقلة تلقائية البرمجة، في عقل الطفل كنظام ينقب عن المعارف ويهضمها (بدلا من تخزينها أرشيفيا). وفي ست سنوات تخرج المدرسة جيلا مبرمج العقل لتوسيع ديناميكي لمحيط المعرفة.

مفهوم وزارة «التربية» يعني تطويع أو تعويد عقل التلاميذ على إدمان تلقي المعلومة جاهزة مغلفة عبر سبيل حدده سياجان: مفهوم «الممنوع والمباح»، وقاعدة «الحرام والحلال».

لا التلميذ، أو البرلمان الممثل للأسرة، شارك في رسم السياجين، بل حدده مركزيا وزير «التربية» (غير المنتخب برلمانيا) بمفهوم تعمد شل مراكز الاجتهاد الشخصي في عقل التلميذ.

وعندما يصل الجيل الذي «تربى» على قشور معرفة غير قابلة لإعادة البرمجة، إلى سن البلوغ الوظيفي يساهم في نشر الجهل في صياغة العقل الجماعي للأمة (جيل وزارة التربية يصبح معلمين ومعلمات، ونظار مدارس ومديري الآلة البيروقراطية الضخمة، كأهم ركائز الأنظمة الشمولية، وصحافيين، ومنتجي تلفزيون، وموظفين على درجة «فنان ملتزم»).

هذه المرحلة (15 - 20 عاما بعد الانقلاب) يصل تأثير جهاز البروباغندا الغوبلزي (الصحافة والتلفزيون الرسميين) إلى الأوج. وبينما يتناقص سنويا عدد من يذكر عهد الانتخابات البرلمانية وحرية الصحافة (جميعهم فوق سن التقاعد وساءت صحتهم لقلة الإنفاق على الرعاية الصحية مقابل الإنفاق على الأمن والتسليح والبروباغندا). وهنا يحل التلفزيون الرسمي وصحافة الدولة (في متناول الأغلبية الفقيرة بسبب دعم الدولة) محل المعلم في المدرسة، لجيل تعود التلقي بدلا من البحث.

الظاهرة الثالثة، أن غالبية الصحافيين - بما فيها الصحافة المستقلة والخاصة - هم من جيل وزارة «التربية». أما السلالة المهددة بالانقراض من جيل وزارة «المعارف»، فإما هاجرت للخارج، وإما تقاعدت أو شربت مياه «نهر الجنون» لراحة البال أو لحماية الرزق.

وكان الأجدر بواشنطن استراتيجية طويلة الأمد. توجيه الجهد والمال لتدريب شباب الصحافيين، ودعم صحافة (مرئية، ومسموعة، ومطبوعة) بمهنية راقية، ليعملوا بها في بلادهم لعقدين، شريطة بذل جهد ومال موازيين لدعم نظام تعليم جديد بمفهوم المعارف، والصبر لأن أشجاره لن تثمر قبل عقدين.

وعندما أدركت الإدارة الأميركية قلة تأثير الدبلوماسية الجماهيرية اتبعت المثلين الإنجليزيين «إن لم تقدر على هزيمتهم، فالتحق بهم» و«عندما تنزل بروما فقلد ما يفعله الرومان»، والتجأت إلى أسلوب الأنظمة الشمولية نفسها، بمحاولة منع بروباغندا الخصم من الانتشار.

وفي هذا الإطار يمكن أن نفسر الطلب غير المتوقع، بمنع تلفزيون الكولونيل القذافي من البث على «عربسات»، رغم أنه مصدر للتسلية والمتعة والفكاهة، لغرابة أساليبه وشبه انعدام المهنية الصحافية فيه.

والخطوة تناقض المادة الأولى من الدستور الأميركي، التي تقدس حرية التعبير، بما في ذلك حق أي شخص في حرق العلم الأميركي علنا كتعبير عن رأيه.

وكانت نصيحتي لعدد من معارضي نظام الكولونيل القذافي أثناء مؤتمر لندن، عندما اقترحوا منع تلفزيون النظام، أن «يشيلوا الفكرة من دماغهم» حتى لا يزرعوا بذور الفشل على طريق الحرية بتقليدهم الأنظمة الشمولية، في منع حرية التعبير.