شيعة الخليج.. لا فحم.. ولا فرقد..

TT

ربيع العرب، إن صحت التسمية، ككل ربيع لا بد من عواصفه وأمطاره، إلا أن الفرق بين الطبيعة والإنسان، أن عواصف الأولى مؤقتة، مهما طالت، وعواصف الثاني مقيمة.

من العواصف التي جاءت مع ربيع العرب محاولة دؤوبة للتفرقة الشائنة بين النسيج الاجتماعي، وإيقاع الخلاف - في طريق البحث عن الإنصاف الاجتماعي والسياسي - بين أهل الوطن الواحد. فمثلا بدلا من أن تتوجه كل الأمور إلى بناء مستقبل أفضل من الماضي لجميع المواطنين، تطل برأسها الفتنة الطائفية والفئوية سعيا وراء التمزيق الطائفي والتناحر الوطني.

هي في الأردن بين من هم من أصل فلسطيني وشرق أردني، وهما في الحقيقة فرعان لشجرة واحدة، وهي في مصر بين قبطي وبين مسلم، وقد عاشا قرونا معا، وهي في سورية بين علوي وسني وإسماعيلي، وهي في تونس بين أهل الساحل وأهل الداخل، وهي في الخليج بين سني وشيعي. وتحول البحث عن الحرية في ربيع العرب إلى نفي الآخر المواطن والطعن بولائه.

مقصد الكلام هو المثال الخليجي، شيعة الخليج عرب في معظمهم، ومن كان أصله من إيران تعرب جيلا بعد جيل، وقد لا يعرف البعيدون أن هناك جماعات كثيرة أصلها عربي في إيران، ولا أقصد هنا أهل الأهواز المعروفين تاريخيا ولكن أيضا سكان شمال وجنوب غرب الهضبة الإيرانية، هم من أصول عربية سنية في الغالب، يسميهم أبناء الخليج بعد انتقالهم إلى الضفة الغربية منه بالهولة، وقد نزح منهم على مر القرن التاسع عشر والعقود الأولى للقرن العشرين حتى منتصفه، عدد كبير استوطن وقدم الكثير لرقي أوطان الخليج وبنائها.

الشيعة أيضا أسهموا مساهمة جليلة في الدفاع عن الوطن، المثال الأخير في تسعينات القرن الماضي عندما احتل النظام العراقي السابق الكويت، قدم أبناء الطائفة الشيعية، كما السنية، كمواطنين، الكثير من التضحيات واختلطت دماؤهم ببعض، دفاعا عن الوطن. في البحرين في السبعينات من القرن الماضي صوتت نسبة كبيرة من أبناء البحرين، شيعتهم وسنتهم مع الاستقلال والعروبة. في شرق المملكة العربية السعودية، قامت في البداية أعمال النفط في المنطقة الشرقية على أيدي أبناء الشيعة في المنطقة الذين شاركوا إخوانهم في الضراء سابقا وفي السراء لاحقا، وكذا أبناء دول الخليج الأخرى. وهو أمر طبيعي في الهجرة والتنقل بين موانئ الخليج العربية والإيرانية الذي استمر قرونا، وفي كثير منه دون تدخل من السلطة الإيرانية في الداخل البعيد. الهجرة والهجرة المضادة في مناطق التماس بين القوميات أمر طبيعي، حدث في كل مناطق العالم.

ماذا حدث إذن كي تحاول بعض القوى اللعب في النسيج الاجتماعي؟ إنها السياسة لا أكثر، قلة مستفيدة تتبعها في بعض الأحيان كثرة مغيبة تؤجج المشاعر السلبية تحت شعارات شتى، ويفقد المجتمع شيئا من لحمته تمهيدا لتقطيع أوصاله بعد أن يفقد بعض عقله.

لا أحد لديه شيء من العقل يدخل الجدل من الناحية العقيدية، لأن العقائد هي مسؤولية الفرد وعلاقته بربه، وقد كان ولا يزال أبناء الطائفة الشيعية يختارون مقلدا يستندون على فتاواه في شؤونهم وما يخصهم، وليس ذلك بجديد أن يكون هذا المقلد أو ذاك في مكان ما من إيران أو من مدن العراق، كالنجف وكربلاء. والخلاف الفقهي، الذي طال قرونا، لن ينفع فيه تعصب هنا وتعصب مضاد هناك، الأفضل التعايش معه في إطار ما تم التعارف عليه من المواطنة الحديثة.

محاولة التدليس في هذا الأمر من أخطر ما يمكن أن يحصل للنسيج الاجتماعي في الخليج، واللعب على المشاعر، أقلية هنا، تدغدغ مشاعرها وأغلبية هناك تثار مشاعرها، ذلك نوع من التدليس السياسي، وضرب إسفين الفرقة.

لنعترف أن هناك أقلية، لأسباب سياسية، تنحو نحو الولاء السياسي للقيادة الإيرانية، هناك حزب كامل، هو حزب الله في لبنان يقولها بوضوح ودون مواربة، إنه ينتمي إلى المرجعية الدينية، وبالتالي السياسية الإيرانية، وهناك من السنة من يؤيد مشروع حزب الله المقاوم، وقد لا يتفق معه على المرجعية السياسية أو المذهبية، ولكن يتعاطف مع مشروعه السياسي الموجه نحو العدو الصهيوني، كل ذلك سياسة.

ولكن، وهذه (اللاكن) كبيرة، هناك خط فاصل بين السياسي وبين العقيدي، وهما برزخان - من المفروض أن لا يبغيان على بعضهما - فالخلاف السياسي يبقى خلافا سياسيا، ولا يطول العقيدة ولا يحتمل التعميم. كثير من المواطنين، السنة والشيعة، لا تروقهم سياسة إيران الحالية وطريقة التعبير عنها، ويرون في ذلك تدخلا سافرا في شؤون بلادهم، وهذا حقهم المشروع، ولكن بالوقت نفسه وبدرجة القوة لا يرون أن عداء مستحكما يجب أن يتصاعد إلى درجة التوتر الخطر بسبب تهم إيقاظ التبعية إلى خارج الوطن، إلا في حال الجرم المشهود وبالدليل القاطع دون تعميم.

خلط الأمور بين السياسي والعقيدي هو ما يرغب في فعله المتعصبون من الجانبين، وما يصطاد في بحره السياسيون ويغرق فيه الجهلاء.

الثمن غال جدا في دفع أمور العواصف المصاحبة للربيع العربي إلى نهايتها السلبية، كما أن الربح بيّن في التفرقة بين الجهل والتعصب، والحكمة والمنطق، والأهداف الكلية التي ينتفع منها الشعب، والأهداف الفرعية التي يريد أن يستفيد منها البعض.

يطمح كثير من العرب أن تحرر رقابهم - من خلال ربيع عربي سياسي - من ربقة الاستبداد، كما يطمحون إلى بناء دولة مدنية، إن صلحت الواحدة منها صلح الجسم العربي ككل، وبذلك لا يجب أن ينجروا إلى استعباد آخر، فالعربي الذي يبحث عن الإنصاف والعدل، وجب أن يبحث مع غيره من المواطنين عن ذلك الإنصاف والعدل، بعيدا عن الاستقواء بالخارج الذي له - كدولة - مطامع لا تخفى. الطموح إلى العدل والمساواة هو طموح الجميع والقائم على قانون يتساوى أمامه الجميع ويقدم الرحمة، والقواعد التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة، تنطلق من العلوم التجريبية الحديثة، أما إذا صاحب الاستبداد السياسي الاستبداد الديني فسوف يدخل الجميع في ليل طويل لا صبح يرجى بعده.

بيت القصيد أن شيعة الخليج مواطنون أفضل ما يمكن أن يحصل لهم، العيش مع إخوانهم في دولة مدنية، تساوي بين المواطنين جميعا وتحفظ للجميع حقوقهم المختلفة، فهم ليسوا ولا يجب أن يكونوا مواطنين أقل درجة (فحم) كما لا يجب أن يكونوا فوق الجميع (فرقد)!

آخر الكلام:

حكم على رجل عربي في الولايات المتحدة مؤخرا بالسجن لمدة 35 عاما بتهمة قتل ابنته البالغة 20 عاما عن طريق دهسها بسيارته، حجته أنها أصبحت غربية أكثر من اللازم!