«البعث» و«الوطني» و«الدستوري»: اجتثاث أم رصاصة رحمة؟

TT

قضية التعامل مع النخبة الديكتاتورية الحاكمة وأجهزتها المختلفة بعد سقوط النظام كانت في الكثير من الحالات موضوعا جدليا وقابلا للتفجر، ليس فقط لغياب تقاليد تداول السلطة في منطقتنا، بل وأيضا لأن طريقة التعامل مع من كانوا جزءا من منظومة الحكم وأجهزته في السابق، ستسهم في تحديد اتجاهات التحول السياسي وإمكانية الانتقال من الثقافية المملوكية التي سادت أنظمة الحكم في منطقتنا إلى ثقافة مؤسساتية جديدة.

علينا أن نتذكر أن التغيير لا يتخذ مسارا واحدا في جميع البلدان، وتتمثل أمامنا اليوم نماذج مختلفة لإمكانية التغيير ولحدوده ولاتجاهاته. فأحيانا يكون التغيير ذا نمط تفاوضي كما نرى في تونس ومصر، حيث نجحت الاحتجاجات الشعبية في إزالة رأسي النظام من دون أن يؤدي ذلك إلى إزالة النظام بالمجمل، بل إن عملية التحول نفسها تخضع لإشراف بعض المؤسسات السابقة مثل الجيش. في أحيان أخرى يكون التغيير ثوريا، فيزاح النظام تماما بكل رموزه وشخصياته ومؤسساته وطرقه، وهو ما شهدنا حصوله في ثورات شعبية كالفرنسية والروسية والإيرانية، إلا أن هذا النوع من التغيير لا يقود بالضرورة إلى ظهور نظام ديمقراطي، فالقيم الثورية بطبيعتها هي قيم تقترب في أذهان أصحابها من المطلق، وبالتالي لا تقبل المساومة والحلول الوسطى. من هنا فإن تلك الثورات جميعا تبعتها صراعات دموية بين أجنحة مختلفة كل منها ادعى ملكية الثورة أو أراد توجيهها في الاتجاه الذي يعتقد صحته، وهي عملية غالبا ما تنتهي بتصفية معظم المتنافسين (الذين كانوا رفاقا) وسيطرة جناح واحد، وآيديولوجيا واحدة ومفهوم واحد.

مثل هذا النوع من التغيير لم يحصل بعد في الموجة الاحتجاجية الراهنة التي تجتاح عدة بلدان عربية.. وفي البلدين اللذين شهدا إنجاز عملية الإطاحة برأسي النظام تجري عملية انتقالية ذات طابع تفاوضي، يتخللها استعراض للقوة وصراع للإرادات بين النخبة القديمة والتيارات الجديدة الصاعدة، وتتجسد مسؤولية المؤسسات المشرفة على العملية في مدى قدرتها على التوسط بين ميل النخبة القديمة للحفاظ على ما أمكن من شخصيات ومصالح ورموز وأجهزة النظام القديم، وميل التيارات الجديدة إلى إزالة كل ما يتعلق بالنظام القديم. وبهذه الخلفية اضطر الجيش المصري الذي يشرف على العملية الانتقالية إلى أن يقدم تنازلات للمحتجين، تمثل آخرها في إحالة الرئيس السابق وأفراد من عائلته إلى القضاء، لكن هذه التنازلات لم تكن من جانب واحد أو بلا ثمن، فقد قايضها الجيش بإجراءات أكثر صرامة مما سبق، نحو منع المظاهرات أو تقييدها. وقد حصل شيء مشابه في تونس، حيث دفعت مطاولة المحتجين برموز النظام القديم إلى التنحي والانزواء من دون أن يحصل ذلك بضربة واحدة وبطريقة عنيفة كما حصل في الثورات التقليدية.

إن النموذجين التونسي والمصري يمثلان حتى الآن شكلا من التغيير التفاوضي الذي ستتشكل نتائجه النهائية ليس فقط عبر الإجراءات الدستورية المتخذة نحو التحول الديمقراطي، بل وأيضا عبر صراع الإرادات المتواصل (بين النخبة القديمة والتيارات الجديدة). وهنا تبرز قضية التعامل مع رجال وأجهزة العهد القديم، وقد رأينا ميلا من المحتجين نحو القطيعة مع تلك المرحلة وبالتالي مع مؤسساتها، وبشكل خاص الحزب الحاكم الذي عادة ما يمثل الوجه الأكثر قبحا للنظام، ليس فقط بحكم الفساد الذي يهيمن عليه، بل وأيضا لأن أفراده الذين غالبا ما يمثلون شريحة نفعية ذات كابح أخلاقي ضعيف، كانوا هم من يحتكون بالناس في الشارع ومن يعبرون عن إرادة النظام ومفاهيمه المتكلسة وفوقيته.

بعد التغيير في العراق استحدثت الإدارة الأميركية المؤقتة ما صار يعرف عربيا باجتثاث «البعث»، وفي الحقيقة إنها تبدو ترجمة متطرفة لمفهوم «De-Ba’athification». المفارقة في العراق تمثلت في أن قوانين المرحلة الانتقالية كانت توضع بالإنجليزية ثم تترجم للعربية، الأمر الذي انصب في تأكيد صورة أن التحول يقاد بأجندة غير عراقية، وبالتالي أطلق العنان لنظريات المؤامرة. لكن الفكرة الأصلية لمفهوم الـ«De-Ba’athification» كانت تقوم على مواجهة الآثار الفكرية التي تركتها سياسة التبعيث (Ba’athification) التي اتبعها النظام منذ السبعينات وبموجبها سعى إلى جعل عقيدة «البعث» (التي كان النظام أول المرتدين عن مبادئها الأساسية) آيديولوجية وحيدة مهيمنة في الجيش والمؤسسات الثقافية والتعليمية، ومن هنا ركزت إجراءات الإقصاء على أولئك الذين شغلوا الفئات العليا الثلاث في جهاز الحزب وليس على أفراده العاديين الذين دخلوا إليه طمعا في مكاسب شخصية، لكن المبدأ قد تمت الإساءة إليه أولا من بعض العراقيين المعارضين للنظام السابق الذين أرادوا تحويله إلى وسيلة انتقام تجاه كل من انتمى إلى «البعث»، وثانيا من قبل وسائل الإعلام لا سيما العربية التي كانت مجندة لمهاجمة كل ما يحصل في العراق وتهويل أي إجراء يتخذ، وهذان العاملان عززا من ذعر الكثير من أفراد ذلك التنظيم، بما سهل تعبئتهم في الحركات المسلحة الخارجة عن القانون.

إن كراهية غالبية العراقيين لحزب البعث، وغالبية التونسيين للحزب الدستوري، وغالبية المصريين للحزب الوطني، هي أمور غير قابلة للنقاش (على الأقل لمن يريد أن يخوض نقاشا علميا وأكاديميا وليس غرائزيا)، لكن المهم هو الكيفية التي تتم بها إدارة التعامل مع هذه الأجهزة، لا سيما التفريق بين كونها كيانات خدمت أنظمة ديكتاتورية ومستبدة، وبين الأفراد الذين دخلوها وكان كثير منهم يبحث عن فرص للصعود الاجتماعي والعيش، وأصبحت مصلحته الشخصية متماهية مع مصلحة النظام في البقاء. وهؤلاء لا يختلفون كثيرا عن أعضاء الأجهزة الأمنية في النتيجة. إن تحييد هؤلاء ضروري من أجل ألا يتحولوا إلى قوة اجتماعية تعمل بشكل مضاد للتغيير، والحل القضائي لهذه الأحزاب كما حصل في مصر مؤخرا يمثل خطوة جيدة ما دام الهدف هو الكيان الحزبي وليس أفراده الذين يعودون مواطنين عاديين يواجه بعضهم بصفته الفردية اتهامات الفساد أو الاضطهاد، ويترك لمن لا تطاله هذه الاتهامات حرية تحديد خياراته السياسية المستقبلية، وربما سيواجهون برفض اجتماعي يعبر بدوره عن مستوى آخر للمشكلة، ربما كان النموذج الجنوب أفريقي، القائم على مبدأ التوبة والغفران، أفضل مخارجه.

إن هذه الكيانات هي كيانات ميتة أصلا، لا يجمعها أي مبدأ أو عقيدة سوى مصالح أفراد منتفعين، لكن الطريقة التي نختارها لنطلق عليها رصاصة الرحمة تلعب دورا في تحديد الاتجاه الذي إليه نسير.