خارج المساحة

TT

كان لبنان دائما قليل المساحة، رغم التنوع الهائل في طبيعته من سواحل وجبال وسهول. وكانت العشرة آلاف كيلومتر مربع تنقص في ظل تقلبات السياسة وجور الزمان. وعندما احتله الإسرائيليون عام 1982 لم يبق من الدولة سوى القصر الجمهوري، الذي وقف شارون على مشارفه، ومنعه من الدخول إليه تهديد الرئيس إلياس سركيس بإحراقه إذا تقدم الجزار صوبه.

بسبب ضيق المساحة الجغرافية كان للبنانيين حضور أكبر من بلدهم بكثير، في الآداب وفي الفنون وفي العلوم وحتى في السياسة. صار بعضهم وزراء ورؤساء حكومات وقادة عسكريين وأعضاء مجلس شيوخ ومستشارين سياسيين في مصر والسعودية وسورية والعراق والأردن وحتى في المغرب. لكن يبقى رياض الصلح، رئيس وزراء الاستقلال، الأكثر أهمية في تاريخ لبنان.

كانت هناك عودة جدية إلى مرحلته ودوره، في العامين الأخيرين. أولا، صدر مؤلف عنه للكاتب البريطاني الخبير في الشؤون العربية، باتريك سيل. وصدر الآن مؤلف بعنوان «رياض الصلح في زمانه» للدكتور أحمد بيضون، أحد أبرز الأكاديميين الباحثين في قضايا وثنايا لبنان. يؤكد عمل الدكتور بيضون (650 صفحة) انطباعا عاما لدى اللبنانيين والعارفين من العرب. وهو أن حجم رياض الصلح السياسي كان أكبر بكثير من حجم بلده، الواقع تحت الحكم التركي ثم تحت الانتداب الفرنسي. وقد عمل الرجل ضد الاثنين. عرف السجن في اسطنبول، وتنقل في أوروبا والعالم العربي يسعى في سبيل الاستقلال. ولما تحقق، كرس ما بقي من حياته من أجل فلسطين، إلى أن اغتيل في يوليو (تموز) 1951 في عمان وهو في طريقه إلى مطارها، بعد محادثات مع الملك عبد الله.

ساد انطباع بأن الصلح اغتيل انتقاما لتوقيعه إعدام أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن بيضون يطرح افتراضيات أخرى، منها دور الصلح في محاولة تجميع العرب في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ملمحا إلى أن الرجلين اللذين قاما بالعملية لم يكونا على علم بأول الخيط في المؤامرة.

يقسم بيضون كل صفحة من الكتاب إلى قسمين: واحد عن الزعيم الاستقلالي، وآخر عن الوضع السياسي في لبنان والمنطقة في تلك الأثناء. وبذلك يكون في الحقيقة قد كتب تاريخين، أو بالأحرى تاريخا وسيرة. وإذا كان كتاب باتريك سيل يمثل النظرة «الخارجية» إلى المرحلة والرجل، فإن عمل أحمد بيضون يمثل رؤية العالم الاجتماعي والسياسي إلى مرحلة غير واضحة تماما من تاريخ لبنان. وفي اجتهاد شديد وتؤدة مشهودة، يوجد للبنانيين رؤية واضحة كانوا يرفضونها من قبل.