الثورات العربية.. خطوط عريضة ومستفزة

TT

على الرغم من أن الثورات العربية تكتسح الدنيا، فإن هناك خطوطا عريضة تدفعنا جميعا إلى التفكير العميق، وهنا أطرح بعض الخطوط التي تثير التساؤلات وما هي بمسلمات، هي مجرد محاولة لتحفيز الأذهان للتفكير فيما ستؤول إليه هذه الثورات، أسئلة الهدف منها الاستفزاز العقلي.

أولى هذه الطروحات هي أن الثورات العربية غالبا ما ينتهي بها المطاف إلى إنتاج نموذج أسوأ من الذي ثارت عليه وقامت لكي تغيره، فمثلا نتائج ثورة 1952، أو انقلاب 1952، كما يستحسن البعض تسميتها، قامت للقضاء على الملك فاروق ونظامه الفاسد، في حين أن الحقيقة التاريخية تقول إن كثيرا من الأنظمة الإدارية والمالية والسياسية في عهد فاروق، ومنها النظام التعليمي مثلا وإدارات المرور أو الصحة، كانت كلها، بلا استثناء، أفضل بكثير مما جاءت به جماعة الضباط الأحرار. أما نظام البعث في العراق فبكل تأكيد كان أسوأ مما كان قبله في العهد الملكي العراقي، فهل ستكون نتائج الثورات الحالية نظاما أسوأ مما كنا عليه، أم أنها ستتحسب لهذا النمط التاريخي الذي يقول إن ثوراتنا تنتج أنظمة أسوأ من سابقاتها فتفاجئنا هذه الثورات بنظام أفضل؟ أتمنى ذلك على الرغم من أن المؤشرات الأولية لا تنبئ بخير.

الخط العريض الآخر هو اختفاء الحديث عن الإرهاب و«القاعدة»، فهل هزمت الثورات العربية الجماعات المتطرفة، أم أن «القاعدة» والإرهاب هما اللذان أنتجتهما الأنظمة الديكتاتورية في مصر وتونس واليمن وغيرها من أجل الدفاع عن أنفسها وهي في الرمق الأخير أمام الضغط الدولي، والأميركي تحديدا؟ «القاعدة» لم تكن بتلك المنظمة القوية القادرة على تهديد الغرب، بدليل اختفائها هذه الأيام. بعد الثورة لا وجود لـ«القاعدة» في مصر ولا في تونس، ولا وجود لـ«القاعدة» في المغرب الإسلامي وشمال أفريقيا، كما يدعي المتخصصون في الحركات الإسلامية. الإسلام السياسي والجهاد كانت حركات مصاحبة على الأقل في مصر من صنع النظام؛ فأيمن الظواهري ذهب إلى أفغانستان بمساعدة وزير الداخلية المصري في الثمانينات.

خط عريض آخر هو أن القبيلة لا الآيديولوجية هي التي تضبط الإيقاع في العالم العربي، من اليمن في منطقة الجزيرة العربية إلى محافظة قنا في آخر صعيد مصر، أما السلفيون والإسلاميون و«القاعدة» وغيرهم فهم ظواهر مصاحبة وأدوات لدى القبيلة تستخدمها وقتما تشاء؛ فالإسلامي ليس قادما من الفضاء، هو ابن قبيلة، أما الإسلامي الفضائي القادم من الفضاء، فلا وزن له على الأرض حتى لو كان في كاريزما أيمن الظواهري. فالظواهري يستطيع مثلا أن يحكم من تورا بورا، لكنه لا يستطيع أن يحكم في الجيزة أو قنا، عندما يبقى وجها لوجه أمام أهله وعشيرته؛ لأن الوضع محلي لديه طبقاته التراتبية التي ليس من بينها الظواهري.

الخط العريض قبل الأخير هو: أين إسرائيل في الخطاب العربي منذ بداية الثورة؟ لو بحثت في «غوغل» في الصحف والتلفزيونات العربية كلها منذ ثورة تونس حتى اليوم، لما وجدت ذكر إسرائيل أكثر من 5 مرات، وبشكل هامشي، إذن أين هو حديث المقاومة؟ لماذا سكت نصر الله عن إسرائيل؟ ولماذا صمت أحمدي نجاد؟ أليسوا هؤلاء هم من كانوا يريدون تلقين إسرائيل درسا؟ فماذا حدث لهؤلاء؟ وهل سكوتهم عن عمد، أم أنهم شركاء في شيء لا نعلمه، أم ماذا؟ لماذا اختفت إسرائيل بهذا الشكل اللافت من الخطاب العربي؟ هل كان الكلام عن إسرائيل غير جاد وهو مجرد عملية شحن محلية مارستها الأنظمة الديكتاتورية بهدف لفت الأنظار بعيدا عن المشكلات الداخلية، ولما انفجر الوضع الداخلي، قرر هؤلاء التخلي عن شعارات كانوا يعرفون أنهم غير جادين فيها؟ الأسئلة كثيرة، وكثيرة جدا، وتحتاج إلى إجابات.

الخط الأخير هو أن الثورات العربية أثبتت أن الملكيات العربية أقل عرضة للهزات الشعبية من الجمهوريات؛ وذلك لأن شرعية الأنظمة الملكية تعتمد على شيء من الواقع وليس مجرد وهم وطني، أو زار جماعي متى ما نفخت فيه انهار، ولقد نفخت إسرائيل في نظام جمال عبد الناصر في 1967 فانهار من الخارج، ونفخ الشباب المصري في نظام مبارك في 2011 فانهار في أيام قلائل من الداخل؛ إذ لم تكن الديكتاتوريات العربية سوى وهم صدقناه، وكما غنت سيدة الغناء العربي «كان صرحا من خيال فهوى».

تلك مجموعة الملامح العريضة التي أردت بها استفزاز عقل القارئ للتفكير بشيء من العمق في واقعنا العربي، حتى نستطيع أن نتصور عالما أفضل أو مستقبلا أفضل، فليس بالضرورة أن تنتج الثورات نظاما أسوأ من سابقه، حتى لو كانت السيرة التاريخية لإنتاج الأنظمة عندنا تشير إلى ذلك وبكل وضوح.