العلاقة بين مصر وإيران، منذ مجيء الدكتور نبيل العربي وزيرا للخارجية في القاهرة، تستحق المتابعة الدقيقة، وهي متابعة لن تكون فقط مرهقة، بحكم التعقيد الذي تبدو عليه خيوطها الممتدة في كل اتجاه، لكنها سوف تكون ممتعة للعقل، وربما مثيرة أيضا.
فما كاد الدكتور نبيل يستقر علي الكرسي في مكتبه على النيل، عضوا سياديا في حكومة الدكتور عصام شرف، حتى بادر إلى الإعلان عن أن إيران دولة صديقة، وأنها ليست عدوا لنا في مصر، وأن القاهرة تفتح صفحة جديدة في علاقتها بنظام الملالي في طهران، وأنه.. وأنه.. إلى آخر المعاني الإيجابية جدا من هذا النوع. وقد وصفت الصحف القاهرية، خصوصا صحيفة «الأخبار» تصريحات الوزير، في حينها، بأنها «ثورة في سياسة مصر الخارجية»!
بعدها بأسبوع، أخذ الوزير «العربي» خطوة إلى الوراء، بعد أن كان قد قفز عدة خطوات إلى الأمام، فقال إن مصر ملتزمة بأمن دول الخليج، وقال أيضا ما معناه، إن الإعلان عن فتح صفحة جديدة مع إيران ليس معناه التخلي عن التزام بلاده بأمن منطقة الخليج إجمالا، وهو أمن وصفه الدكتور نبيل بأنه خط أحمر، لن تسمح القاهرة من الاقتراب منه، لأن الخليج عموما يمثل عمقا استراتيجيا لمصر، ويظل بالتالي، جزءا من أمن مصر القومي.
وكانت هذه الخطوة، التي قطعها الوزير إلى الوراء، بمثابة إعادة للتوازن إلى تصريحاته الأولى، أكثر منها تراجعا عن شيء قاله، لأنه من الواضح أن تصريحات الرجل في البداية كان فيها شيء من التسرع غير المبرر، أولا، وشيء من القفز فوق ثوابت في سياسة مصر الخارجية، ثانيا، وإن كانت بطبيعة الحال تعبر عن براعة من جانب الوزير، في اللعب بعدة أوراق في وقت واحد.
ففي التصريحات الأولى، كان الوزير يتطلع بعينيه الاثنتين معا، إلى إيران، ليكتشف بعدها أن القلق قد انتاب الخليج كله، بعد تصريحاته، ولم يكن أمامه مفر، والحال هكذا، إلا أن يعيد النظر في الطريقة التي يتطلع بها إلى هناك، وكانت نتيجة إعادة النظر من جانبه، أنه راح يتطلع إلى إيران، من خلال تصريحاته الثانية، بإحدى عينيه، بينما كانت العين الأخرى على الخليج، ودول الخليج!
ومع أن هذه النبرة المتوازنة قد جاءت لتعبر عن وجدان كل مصري، لا يرى عيبا في أن تعيد بلاده علاقتها الطبيعية مع إيران، بشرط ألا يكون ذلك على حساب علاقتها مع دول الخليج الست، فإن هذه النظرة، رغم توازنها، من جانب الوزير، يبدو أنها لم تكن مريحة على أكثر من مستوى، خارج مصر، وليس في داخلها بالطبع.. وليس أدل على ذلك من أن الخارجية المصرية قد عادت، صباح الأربعاء الماضي، لتؤكد، من دون مناسبة ظاهرة، أن العلاقات مع إيران ليس فيها جديد. وقالت السفيرة منحة باخوم، المتحدثة باسم الوزارة، إنه لا يوجد أي اتفاق بين القاهرة وطهران على رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى درجة سفير، وإنه لا يمكن لمثل هذه الخطوة، أو هذا الإجراء، أن يتم الإقدام عليه من طرف واحد، وإنما بموجب اتفاق بين البلدين.
ومن جانبه، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، في اليوم نفسه، إن تطور العلاقات بين القاهرة وطهران، في مصلحة البلدين، ثم قال ما معناه، إن المعلومات حول قرار تعيين سفراء أو أي قرارات أخرى، تبدو متسرعة قليلا، وإنهم مستعدون للقيام بخطوات إلى الأمام، عندما يكون الأشقاء في القاهرة مستعدين لاستئناف العلاقات. وقال: «سوف نبحث تعيين سفير لدى مصر، في أول فرصة ممكنة».
والواضح جدا أن أشياء كثيرة قد جرت تحت السطح، من تصريحات الوزير العربي الأولى، خصوصا، ثم الثانية، عموما، وأن هذه الأشياء التي جرت قد راحت تترجم نفسها إلى أشياء أخرى ظاهرة، لا يمكن للعين أن تخطئها، ويمكن إيجاز هذه الأشياء الظاهرة في ثلاث خطوات على وجه التحديد:
الأولى من جانب مصر، وتتعلق بجولة خارجية سوف يقوم بها رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف، هذا الأسبوع، إلى ثلاث من دول الخليج، ويمكن التخمين بأنه لم يكن من الممكن أن يذهب رئيس الوزراء المصري إلى الدول الثلاث، وهي الإمارات، والكويت، والسعودية، عارضا أن يكون هناك تعاون أكبر، على أكثر من مستوى، بين القاهرة من جانب، وعواصم الدول الثلاث من جانب آخر، بينما مصر تتكلم عن صداقة جديدة سوف تقوم غدا، بينها وبين إيران، التي كانت ولا تزال تواصل التحرش بدول الخليج الست، وكان آخر تحرش قامت به، أنها راحت تهدد السعودية بـ«غزو أجنبي» في حالة ما إذا كان.. وكان!.. لذلك، بدا أنه ربما يكون من الأوفق أن «تضبط» القاهرة من سرعتها في اتجاه إيران، بما يبعث على الاطمئنان لا القلق في المنطقة.
أما الخطوة الثانية، التي ربما دعت إلى «ضبط» حركة مصر تجاه إيران، فهي أن رئيس وزراء إسرائيل قد أعلن عن القلق البالغ، تجاه تصريحات أخيرة صدرت في مصر، خصوصا تصريحات الوزير العربي، وحين يصدر هذا الكلام عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، فلا بد أن يكون له صدى في القاهرة، ليس لأن الوزير العربي سوف يرسم سياسة بلاده الخارجية، ويمارسها كما تحب وترضى إسرائيل، وإنما لأن هناك مواءمات معينة، في السياسة الخارجية إجمالا، لا بد من مراعاتها، واللعب بها، وعليها!
وأما الخطوة الثالثة والأخيرة، فهي ما صدر عن الخارجية الأميركية، حين قال مارك تونر، المتحدث الرسمي باسمها، إن إعلان مصر عن استعدادها لاستئناف علاقتها مع إيران قد يكون مفيدا، وإن القاهرة سوف تكون شريكا في الإعراب عن دواعي القلق الدولية إزاء برنامج إيران النووي.
وهنا، يمكن إبداء ملاحظتين أساسيتين على كلام الخارجية الأميركية.. الملاحظة الأولى، أن المتحدث باسم الخارجية يصف استعداد القاهرة لاستئناف علاقتها مع طهران بأنه قد يكون مفيدا.. وعندما يأتي الكلام في صيغة «قد» فهو يعني الاحتمالية، بمعنى أنه قد يكون مفيدا، وقد يكون العكس، من وجهة النظر الأميركية.
والملاحظة الثانية أن مارك تونر يقول إن القاهرة سوف تكون شريكا في الإعراب عن دواعي القلق الدولية، إزاء برنامج إيران النووي.. وهذه عبارة كما ترى، تشير بشكل غير مباشر إلى أن الاحتمال الثاني هو المرجح، في العبارة الأولى، وإلا، فكيف يمكن أن يكون استئناف القاهرة لعلاقتها مع طهران، مفيدا، في نظر أميركا في وقت سوف تشارك فيه مصر دول العالم في الإعراب عن القلق، إزاء ذلك البرنامج النووي الإيراني؟!
هذه الخطوات الثلاث على بعضها، من أول جولة عصام شرف في الخليج، ومرورا بتصريح رئيس وزراء تل أبيب، وانتهاء، بتصريحات المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية، يمكن أن تنفع كمدخل لفهم طبيعة ومبررات التغيير الذي طرأ، فجأة، على ما كان الدكتور نبيل العربي قد صرح به ابتداء!
وربما يكون الذين خدموا في الجيش يعرفون أن هناك عبارة تأتي دائما في صيغة الأمر، وهي عبارة يصيح بها القائد تجاه جنوده، عندما يريد منهم أن يتوقفوا عن فعل شيء، كان قد أمرهم به، وأن يعودوا إلي حالتهم الأصلية، أو الأولى، التي كانوا عليها في البداية.. هذه العبارة هي «كما كنت».. فهي، بمعناها، تصف حالة الدكتور نبيل العربي، مع إيران، منذ جاء، ثم الآن، على أدق ما يكون الوصف!