الجيش وصناعة أنماط التغيير في مصر

TT

كان للجيش المصري دور حاسم في نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني)، وهذا ليس بجديد عليه، فلا يفوت قارئ تاريخ مصر الحديث والمعاصر أن يلاحظ دور الجيش في صناعة الأنماط السياسية المحورية في مصر منذ تكوينه مطلع القرن التاسع عشر، فلم تكد البلاد تمر بمنعطف سياسي حاسم إلا وكان الجيش له الريادة أو القيادة أو دور فيه، والأمثلة متعددة، وهذا بعض منها:

أولا: الجيش المصري كان العمود الفقري للدولة القومية الحديثة، فجهود محمد علي لإقامة الدولة المدنية الحديثة لم تتبلور إلا من خلال نشأة الجيش المصري وتحديثه، فكان دوره فيصليا في تغذية روح الدولة القومية مع مرور الوقت، فالجيوش القومية عادة ما تكون بداية الروح الوطنية في الدول الحديثة، ناهيك عن دور الجيش المهم في دفع قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة التي ارتبطت به وبفتوحاته وتسليحه.

لقد كان الجيش المصري منذ تكوينه وسيلة بدائية لربط المواطن المصري بالدولة الوليدة، وإذا كانت فرنسا هي الرائدة في مجال الجيش القومي أو الوطني بعد إدخال الـ«Levee en Mass» أو التجنيد الإجباري بعد الثورة الفرنسية ليحل الجيش الوطني محل جيوش الارتزاق، فإن الجيش المصري هو أول جيش قومي في الشرق الأوسط، وبالتالي لم يكن مستغربا أن تسعى معاهدة لندن 1840 لتحجيمه كوسيلة لضرب الدولة القومية المصرية الفتية، ومع ذلك فالجيش ضعف، لكنه لم ينكسر كما كان مستهدفا، بل إنه شارك في حروب القرم عام 1856، ثم في الثورة المكسيكية لصالح الدولة الفرنسية في ستينات القرن التاسع عشر، وهو ما جعل ملك فرنسا يمنح اللواءين المصريين المشاركين أرفع الأوسمة.

ثانيا: ارتبطت مرحلة تالية للقومية المصرية بحركة أخرى للجيش المصري، والمعروفة بحركة الزعيم عرابي، فقاد الجيش مرة أخرى لواء العمل القومي في البلاد ضد محاولة إضعافه أو تحجيم العنصر الوطني فيه، كذلك قاد لواء الحركة الوطنية بالتصدي للاحتلال البريطاني، لكن الحركة فشلت بهزيمتها في موقعة التل الكبير واحتلال مصر في 1882، وتم مرة أخرى تحجيم دور الجيش المصري ومعه الدولة القومية والحركة الوطنية، فأجهز المستعمر على الجيش، فغاب دوره تقريبا عن الحياة السياسية خلال الحقب الأولى من القرن التاسع عشر، فانتقلت الحركة الوطنية للشعب للمرة الثانية بعد الأولى والتي كانت في 1805 عندما انتفض الشعب بقيادة علمائه لفرض محمد علي واليا على البلاد.

ثالثا: لعب الجيش المصري الدور المحوري في 1952 للإطاحة بالنظام الملكي، فخلق الضباط الأحرار شرعية جديدة في مصر والعالمين العربي والنامي معا. وكانت الفكرة جديدة والمفهوم مبشرا، لكن الواقع جاء على غير ذلك خاصة بعد هزيمة 1967، فخسر الجيش اللعبة السياسية، فاستمر الإرث السلبي له حتى انتصار 1973 الذي كان المحك الحقيقي لعودة الروح الوطنية.

لقد بدأت المحطة الأخيرة للجيش في الحياة المصرية في 28 يناير 2011، محطة كان المصريون يتوقعونها لكن لم يتوقع أحد تاريخها أو من بالتحديد الذي سيقوم بها، وقد شاءت الأقدار أن ألتقي في مناسبة في يوليو (تموز) الماضي ببعض العسكريين، فكان السؤال الغالب «هل سيتصدى الجيش لأي ثورة لصالح النظام السياسي حماية له؟». فجاء الرد بجملة ظلت ترن في أذني إلى يومنا هذا «..الجيش المصري عمره ما هيضرب مصريين.. إحنا مستعدين للدفاع عن الوطن وأراضيه، لكننا مش مستعدين لضرب مصري علشان خاطر حد». ولقد صدقت المقولة، فحمى الجيش الثورة، وأخذ موقفا وطنيا في الحرب السياسية التي دارت بين الشارع والنظام السياسي، ولم يكتف بإعلان الحياد، وكما هو معروف وثابت في التاريخ فإن ثورات الشارع الغاضب والممتدة لا تهزم إلا بالجيوش، لكن لفترات زمنية محدودة بطبيعة الحال. لقد لعب الجيش دورا محوريا في حماية هذه الثورة، وبموقفه هذا فإنه وضع نمطا جديدا لدور الجيش في السياسة، فحقق الجيش بهذا ما يلي:

أولا: وضع الجيش نمطا يفرق بين نظام الحكم والشعب، فولاؤه لشعبه وليس للنظام، والجيش لم يعد مصدر قوة الحاكم بل قوة الدولة ككل وشعبها، فلم يعد وسيلة لقمعه.

ثانيا: نقل الجيش المصري مفهوم الشرعية من المدفع إلى صندوق الاقتراع، وكفل دوره الداخلي لحماية شرعية الشعب الناشئة ومؤسساته الدولية، فحماية اختيار الشعب ورغبته وهياكله صارت مهمة مقدسة جديدة لا يمكن أن يغفلها.

ثالثا: أثبتت الأحداث الماضية أن مؤسسة الجيش هي التي أنقذت الدولة بعد انهيار بعض الركائز المؤسسية، فهي المؤسسة الوحيدة التي كانت قادرة على لعب هذا الدور، وهو دور لا بد أن تحافظ عليه بحياد من دون التدخل فيه حتى تثبت مؤسسات الديمقراطية وتنتشر ثقافة الديمقراطية. إذا كان الجيش المصري له مهامه التقليدية، فاليوم أضيفت له مهمة الإشراف على بناء المؤسسات والهياكل الديمقراطية وحمايتها وحكم القانون، لكن مهمته الجديدة تحتاج لوضعية جديدة مرتبطة بدوره بعد بناء مصر لديمقراطيتها، فجيش مصر لا بد أن تُضمن له وضعية تحافظ على استقلاليته في المرحلة الجديدة، ليصبح هو ضامن الدولة المدنية الديمقراطية ونظامها الحر، وهو ما سيحتاج لمعادلة جديدة ستتم صياغتها مستقبلا بعد تسليمه السلطة إلى من ينتخبه الشعب كما وعد. هذا هو التحدي الجديد، فهو نمط سيستحدث، لكنه ليس بمستحيل على جيش أثبت وطنيته وجدارته في تاريخ مصر الحديث سواء كمنتصر في الحروب أو كضامن للسلام، واليوم كحام للديمقراطية التي ستكون إحدى أهم ثمار ثورة الشعب المصري.

* كاتب مصري